قضايا العرب

أسرى وأنفاق... غزّة "تحت الأرض" مدينة كاملة التجهيزات

بعد نحو شهر من العملية التاريخية الأسطورية التي نفّذتها فصائل المقاومة ضدّ مواقع ومستوطنات الاحتلال الإسرائيلي في غلاف قطاع غزة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، لا زالت إسرائيل عاجزة عن تحرير أكثر من 200 أسير منذ السابع من الشهر الماضي، أو معرفة أي معلومات عنهم.

وحتى الآن أطلقت حركة "حماس" سراح 4 رهائن على دفعتين منذ أن بدأت الوساطة المصرية والقطرية، في الدخول على الخط لإبرام صفقة تُلبّي الحد الأدنى من شروط "حماس" والاحتلال الإسرائيلي.

أسرى وأنفاق... غزّة

يمثّل ملف الأسرى، ورقة "حماس" الرابحة في كل مراحل صراعها ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي وأمام عجزه عن تحرير الأسرى أو تسريع المفاوضات التي تجريها مصر وقطر، لإبرام صفقة، تسمح بإنهاء القتال في غزّة مقابل إدخال المساعدات، لجأ إلى سلاح الفبركة والمعلومات المضلّلة، بادعاء أنه حرّر الجندية "في أوري مغيديش" التي قال إنها كانت مختطفة لدى "حماس"، وزعم أنه تمّ فحص الجندية طبيًا وهي بحالة جيدة وأنها اجتمعت أخيرًا مع عائلتها.

جاء الإعلان الإسرائيلي الكاذب بعد أقل من 4 ساعات فقط من توزيع "كتائب القسّام"، الجناح العسكري لـ"حماس"، لقطات مصوّرة لثلاث سيّدات محتجزات، بعنوان "رسالة الأسرى الصهاينة لنتنياهو وحكومة الاحتلال" .

واصل الاحتلال، انطلاقًا من هذه الرواية المصطنعة، مزاعمه الكاذبة أيضًا بمواصلة قواته وأجهزته العسكرية والاستخباراتية العمل على إطلاق سراح المختطفين، في مواجهة الانتقادات العنيفة التى يتعرّض لها نتنياهو من أُسَرهم وذويهم.

لكن لاحقًا اتّضح، أنّ أوري لم تكن أسيرة أصلًا، ولم يكن اسمها مدرجًا في القائمة الرسمية لأسماء الرهائن، التي خصّص لها الاحتلال موقعًا إلكترونيًا بعدّة لغات لاكتساب تعاطف العالم مع قضيته الخاسرة.

وفي فضيحة إعلامية من الطراز الرفيع، اتّضح أيضًا أنه تم تحديث للموقع ونشر اسم أوري وصورتها، ما أثار موجة من السخرية والشكوك في آن واحد.

زيارة استثنائية

قبل سنوات بعيدة، سمحت "حماس" بشكل نادر واستثنائي لبعض الصحفيين العرب لا تتجاوز أعدادهم أصابع اليد الواحدة، بزيارة الأنفاق السرّية التي بنتها في قطاع غزة، والتجوّل فيها.

وكانت "حماس" على مدى أكثر من 23 عامًا قد بدأت، بسرّية تامة، في بناء مواقع استراتيجية تحت الأرض في محاولة للتغلّب على الحيّز الجغرافي الضيّق للقطاع، الذي يبلغ طوله 36 كيلومترًا وعرضه 10 كيلومترات فقط.

وبهدف تجنّب الأقمار الصناعية، ورصد الطائرات المسيّرة لكل شاردة وواردة في القطاع، الذي يخضع لرقابة إلكترونية وتلفزيونية صارمة على مدى الساعة، دشّنت "حماس" تحت الأرض بعض الورش والمصانع المختلفة.

ويروي صحفي عربي تجوّل في تلك الأنفاق لـ"عروبة 22" المشهد فيقول: "سمحوا لنا بزيارة بعض المصانع والورش المتخصّصة في صناعة الصواريخ، ودخلنا أماكن ضيّقة للغاية في غزّة حيث شاهدنا بعض مراحل التصينع".

نقلة نوعية

ففي نقلة نوعية في القدرات الذاتية، تطوّر مستوى التصنيع العسكري لـ"حماس" من القنابل اليدوية والأسلحة الخفيفة بعد عام 2000 وحتى الآن، وعن طريق التعلّم والتقليد، شرعت "حماس" في تخصيص ميزانية (غير معروفة) لورش تتولّى إعادة التصنيع عن طريق التقليد، قبل أن تبدأ مرحلة التطوير الذاتي اعتمادًا على احتياجات الحركة العسكرية.

درست "حماس" أيضًا، تجارب حفر الأنفاق التي نفّذت في مصر وفرنسا، علمًا بأنّ الأخيرة كانت مشهورة بعمليات حفر الأنفاق، وسرعان ما بدأت فى جلب واستخدام الآت حفر محلية الصنع كنماذج مقلّدة من الآلات الفرنسية.

تم تحويل باطن الأرض، إلى "دولة كاملة" على أبعاد عميقه جدًا، لتجنّب تأثير الضربات الجوية، والحد من رصد عملية دخول وخروج مقاتلي "حماس" من الأنفاق إلى الخارج، في مهامهم السرّية.

ومبكرًا، ابتكرت "حماس" شبكات مستقلّة لنفسها فيما يتعلّق بالكهرباء والهاتف والماء والصرف الصحي، بعيدًا عن الشبكتين الإسرائيلية والفلسطينية. ونجحت عبر هذه الشبكات، في توفير البيئة اللوجستية اللازمة لإيواء المقاتلين ومخازن السلاح والطعام والدواء.

وفي بعض الأحيان، اعتمدت "حماس" على الطاقه الشمسية في توفير التيار الكهربائي، لكن الأهم أنّ نجاحها في إقامة شبكة اتصالات غير مرتبطة بالشبكتين الفلسطينية أو الإسرائيلية وفّر لها وسائل اتصال آمنة لا تخضع للرقابة والمراقبة.

اعتادت إسرائيل إطلاق تسمية "مترو أنفاق حماس"، على شبكة الأنفاق السرّية التي بنتها الحركة، بالنظر إلى أنّ قواعد الصواريخ التي كانت تنطلق من تحت الأرض على متن عربات مصغّرة عبر شريط من السكة الحديد، ما يسمح لمقاتلي "حماس" بالاختباء فور إطلاق الصواريخ أو المدفعية تجاه الاحتلال لتجنّب القصف المضاد.

ملاجئ آمنة

إذن، من بين الأشياء النادرة التي باتت معروفة عن حركة "حماس"، هو أنها نجحت منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2008 في بناء مدينة أخرى تحت الأرض، تشمل مخازن سلاح وملاجئ آمنة مجهّزة بما يلزم لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى الرغم من امتلاك إسرائيل، وبالطبع من خلفها أمريكا وحلفاؤهما، لتكنولوجيا عسكرية متقدّمة وشبكة جواسيس على الأرض، فإنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بمخلتف أنواعها العسكرية والأمنية، بالإضافة إلى المخابرات الأمريكية والغربية، جميعها فشلت في الحصول على أي معلومة بشأن الأسرى.

ونتحدث هنا عن أكثر من 200 شخص، من بينهم ضباط برتب كبيرة فى جيش الاحتلال الإسرائيلي، فضلًا عن بعض المستوطنين - وليس المدنيين - لأنّ هؤلاء المستوطنين بالأساس زرعتهم إسرائيل لتشكيل حاجز أمني وتطويق مستوطنات غلاف غزة.

هذا العدد الكبير، القابع تحت الأرض، وبالإمكان إخراجه في أي لحظة، كما فعلت "حماس" في عملية تبادل الأربعة الذين تم إطلاق سراحهم حتى الآن، يُثبت نجاح فصائل المقاومة فى إدارة المشهد.

إذ وعبر شبكة الأنفاق السرية، التي استغرق حفرها وتأمينها وتمويهها سنوات طويلة، تمكّنت "حماس" من توفير الأمور اللوجستية التي تُمكّن مقاتليها من البقاء مختفين تحت الأرض، بعد عمليّتهم الناجحة والمثيرة للجدل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وبالطبع يحتاج هؤلاء الأسرى إلى غذاء وحراسة وتأمين وعلاج طبي إن لزم الأمر، ولحسن الحظ يبدو أنّ هذا ما فعلته "حماس" بنجاح حتى الآن، كما يتطلّب الاحتفاظ بهؤلاء، توفير ملاذات آمنة، يبدو أنّ بعضها قد تمّ تدميره في إطار القصف الاسرائيلي، ما دفع "حماس" إلى الإعلان عن مقتل 50 من الأسرى لديها، لكنها نجحت مع ذلك في إخفاء مكان الجثث التي تمّ دفنها بسرّية تامة، للمقايضة عليها لاحقًا، بأسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وفقًا لرواية يوخيفيد ليفشيتس، التي أطلقت "حماس" سراحها، فقد مشت برفقة عناصر الحركة عدة كيلومترات فيما وصفته بشبكة ضخمة من الأنفاق المترابطة مثل شبكات العنكبوت، قبل أن تجد نفسها في قاعة كبيرة ضمّت 25 شخصًا، لكن وبعد نحو ثلاث ساعات تمّ فصل الأسرى عن بعضهم البعض.

وقالت ليفشيتس في شهادتها: "كان لدينا غرفة منفصلة، وكان لدينا حرّاس ومسعف، وجاء طبيب أيضًا وتأكّد من حصولنا على الحبوب (الأدوية)"، لافتةً إلى أنّ الطبيب كان يمرّ عليهم  كل يومين أو ثلاثة ليتابع حالتهم، بينما يتحمّل المسعف مسؤولية التأكد من إحضار الدواء اللازم، وإذا لم يكن الدواء المحدّد متوفرًا يتمّ إحضار الدواء البديل المعادل.

خداع استراتيجي

الفشل المعلوماتى للجيش الإسرائيلي وجهاز "الشين بيت"، كان كارثيًا للغاية على تل أبيب، فعلى الرغم من أنّ "حماس" أرسلت بالونات لمدة ثلاثة أسابيع، قبل الهجوم، لم يأخذ جيش الاحتلال الإسرائيلي الأمر على محمل الجد.

في السابق نجحت "حماس" في إخفاء الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، لأكثر من 1700 يومًا متواصلة تحت الأرض، ولم تطلق سراحه إلا في إطار صفقة متكاملة جرى بموجبها أيضًا إطلاق سراح مئات السجناء الفلسطينيين المحتجزين بسجون الاحتلال.

هذا يعني أن لدى "حماس" خبرة كبيرة وباعًا طويلًا في الخداع التكتيكي والاستراتيجي، وإدارة الأزمة على نحو يحقق أهدافها.

وإذا كانت إسرائيل في بداية الأمر قد تشدّدت وسعت إلى حصار قطاع غزة عبر رفض دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة، وواصلت قصفه بشكل عنيف ومستمر، فإنها فشلت في هزّ معنويات مقاتلي "حماس" أو إجبارهم على الخروج والتخلّي عن الخطة التي يبدو أنه تم إعدادها بسرّية تامة وبإتقان شديد على مدى السنوات الماضية.

ورضخت إسرائيل في نهاية المطاف، بعجزها وفشلها التاريخي، أمام استراتيجية "حماس" التفاوضية، ووافقت على دخول مساعدات محدّدة برعاية أممية، بعد تدخّل عدة وسطاء على الخط.

وراهنًا، تراهن "حماس" على عنصر الزمن في المفاوضات مع إسرائيل، عبر مصر وقطر، بمعنى أنّ استمرار الحرب واستمرار عجز إسرائيل عن تحرير الأسرى، سيشكّل ضغطًا محليًا على حكومة نتنياهو من قبل الرأي العام الإسرائيلي وخاصة عائلات الأسرى، والدول التي لديها أيضًا رعايا محتجزين في القطاع.

في المحصلة، نجحت "حماس" في اختراع الأنفاق وتطويرها، لتصبح "غزّة تحت الأرض" مدينة كاملة التجهيزات، طبيًا وغذائيًا وعسكريًا، بالتوازي مع تطوير الحركة جهاز استخبارات صغيرًا لكنّه أثبت كونه فعالًا ومحترفًا في مواجهة الجبروت الإسرائيلي وما يمتلكه من عدّة وعتاد وتكنولوجيا معقّدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن