قديمًا، أيّ قبل هذه الثورات، عاش الناس حياةً متشابهة، كانت الجموع تأكل وتشرب وتتكاثر، وهي لأجل ذلك تزرع وتصنع لنفسها، مما توفر طبعًا، ملابسها وأدواتها الخاصة، في منازلها التي اتخذت أشكالاً كثيرةً، أو في ورشها الصغيرة.
في تلك الفترة، تمحور وجود الناس حول الزراعة الفردية، حيث كانوا يتمركزون في الأطراف (الأرياف) في تجمّعات صغيرة، بعيدة نسبيًا. آنذاك، كان التواصل عبر المناطق صعبًا للغاية، خصوصًا أنّ غالبية الناس كانت تعتمد على الحيوانات في تنقلاتها ونقل حاجاتها، فيما لعبت النواعير دورًا مهمًا في استجرار المياه من الأنهار إلى حيث يعيش الناس.
لتأتي الثورة الصناعية الأولى، وتُبدّل معالم الحياة لدى الإنسان، وتطوّرها من حياة بدائية ونمط عيش وإنتاج وإقتصاد بسيط استمر لآلاف السنين، وتنقله إلى مستويات أخرى في علاقته مع الطبيعة ومع بني جنسه من البشر، وبعدها تُكمل الثورات الاخرى ما بدأته الأولى.
آنذاك، إستمرت الثورة قرابة مئة عام. كانت بدايتها حينما إكتُشِف المحرِّك البخاري في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وهو آلة تستخدم بخار الماء المضغوط ذو درجة حرارة عالية، لأداء عمل ميكانيكي بواسطة الطاقة الحرارية.
في ذلك الوقت، شهد العالم نقلةً نوعيةً لجهة الانتقال من الاعتماد على جهد الإنسان والحيوان إلى طاقة الآلات التي تعمل على البخار، فتبدّلت وسائل الإنتاج من خلال استخدام هذه الماكينات، ونمت صناعات الفحم والنسيج، ونزح البعض من الأرياف حيث كان مركز الإنتاج إلى المدن التي بدأت بالتوسّع.
بقيت الأمور على هذه الحال، حتى أواخر القرن التاسع عشر، حين حصلت الثورة الصناعية الثانية، التي أحدثت متغيّرات مهمّة للغاية، فتبدّلت حياة الناس تمامًا جرّاء اكتشاف الكهرباء التي أضاءت البيوت والمصانع بدلاً من الشموع والقناديل.
أبرز ما ميّز تلك الحقبة، التي امتدت لمئة عام أيضًا، كما الثورة الأولى، تحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية، واستخدام منتجات البترول الذي حلّ كمصدر أساسي للطاقة واختراع اللاسلكي، كما لوحظ بدء إنتاج السلع الإستهلاكية بكثافة وقتها والإقبال عليها.
والأبعد من ذلك، أدّت هذه التحوّلات، إلى تبدّل النظم الإقتصادية من الزراعة إلى الصناعة، وكان أثر ذلك واضحًا لجهة التحضّر، فظهرت طبقة العمّال مقابل الطبقة الرأسمالية في الدول الصناعية التي كانت تسيطر آنذاك على وسائل الإنتاج. وقد أسّست للنظام الإقتصادي الراهن، حتى مع ظهور الثورة الصناعية الثالثة في النصف الثاني من القرن العشرين.
وهكذا، استمرّت الثورات الصناعية في اختراعاتها تدريجيًا، وفي الثالثة منها والتي عُرفت، بـ"الثورة الرقمية"، حين ظهر الكمبيوتر وتمّ برمجة الآلة لتقوم بمهام عديدة بدل الإنسان، حصلت ثورة في عالم الاتصالات بسبب انتشار شبكة الإنترنت وانخفضت أسعار السلع وزادت جودتها، وتوسّعت شريحة المستهلكين وظهرت سلع جديدة لم تكن تخطر على بال مخلوق في تلك الفترة، لا سيّما أنّ البلاد المتأخرة شهدت على هجرات كبيرة إلى الدول المتقدمة. وكانت الثورة الأكبر في ظهور المنصات الرقمية، غوغل وفيسبوك وتويتر وكل منصات التواصل الإجتماعيّ الموجودة راهنًا.
لنصل إلى الثورة التي نعيشها اليوم، الثورة الصناعية الرابعة (4IR)، والتي في الأصل تنطلق ممّا أنجزته الثورة الثالثة وتستكمله، خصوصًا أنها تعتمد البنية التحتية والتقنيات التي وفرتها سابقتها، وحتى الساعة ربما أبرز ما يميّزها هي الأشكال الجديدة للذكاء الاصطناعي إضافةً إلى المدن الذكية وتكنولوجيا الفضاء.
ظهر مصطلح الثورة الصناعية الرابعة لأول مرة عام 2011 من قبل الحكومة الألمانية التي ذكرت "الصناعة في طورها الرابع" ضمن خطتها العامة، ليتمّ استخدامه على نطاق دولي فيما بعد من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا عام 2016.
وفي الأعوام القليلة الماضية، تسارع التطور التكنولوجي بوتيرة ملحوظة ومختلفة هذه المرة، هيّأتها كل التقنيات المتوافرة مثل الاتصالات السريعة والحوسبة التي أتاحتها الثورة السابقة.
وعلى الرغم من أننا لا نزال نعيش ونتفاعل مع ما جلبته هذه الثورة، ونتساءل عن تبعات ما ستحمله إلينا في الوقت القريب، بدأ الحديث عن ثورة خامسة لن يكون حدودها البحر ولا الجوّ ولا البر ولا الفضاء الإلكتروني، فإلى أين ستصل الثورات الجديدة بالبشرية؟... والسؤال الأهمّ: أين العرب منها؟
(خاص عروبة22 - إعداد حنان حمدان)