زعم معهد دراسات الأمن القومي "الإسرائيلي" أنّ اختيار "عربات جدعون" هدفه تحميل الجندي مسؤوليةً دينيةً وتاريخيةً لما يقوم به. ففي التوراة، يُعَدُّ "جدعون بن يوآش" واحدًا من قضاة بني إسرائيل، وقد قاد، وفقًا لسفر القضاة (الأصحاح 6–8)، معركةً حاسمةً ضدّ المديانيين - أهل مدين في القرآن الكريم وهُم بدو من الحجاز - وقضوا عليهم. وما يُميّز قصّة جدعون أنّه قاد جيشًا صغيرًا مُكوّنًا من 300 مقاتل فقط، واستخدم الخداع والمباغَتة والرموز الدينية لتحقيق نصرٍ مفاجئ وغير متكافئ. وقد جاءت "العربات" أو "الأبواق والجرار" في القصّة كوسائل رمزية للهجوم والمباغتة.
وهنا تشبيه الفلسطينيين بالمديانيين الأعداء التاريخيين لبني إسرائيل، وهذا الإطار الديني ليس محض ترف لغويّ أو تعبير مجازيّ؛ بل هو جزء من العقيدة القتالية المُتنامية في أوساط اليمين الديني القومي في إسرائيل، الذي يمزج بين الرواية التوراتيّة والسياسة الأمنية. اختيار الاسم يشي بمحاولة استحضار رمزية النصر الإلهي، والقيادة المختارة، والجيش القليل الذي يهزم العدوّ الكثير، وهو تصوّر يتجاوز الواقع العسكري ليتغذّى على بُعدٍ دينيّ خطير.
الاسم كأداة استراتيجية: حين تتحوّل الحرب إلى رسالة
تتضمّن الخطة الإخلاء الشامل لسكان غزّة بالكامل من مناطق القتال، بما في ذلك شمال غزّة، إلى مناطق في جنوب القطاع، مع بقاء الجيش الإسرائيلي في تلك المناطق واحتلالها. وتنقسم عملية "عربات جدعون" إلى ثلاث مراحل: أوّلها هجوم جوّي مكثّف، يليه نقل السكان والتحضير للاجتياح، وأخيرًا مناورة برية طويلة الأمد.
هيمنة رمزية تهدف إلى إضعاف المعنويات عبر الإيحاء بأنّ هذه الحرب تنفيذ لـ"إرادة تاريخية مقدّسة"
وإطلاق اسم "عربات جدعون" على العملية العسكرية ليس فقط توظيفًا توراتيًّا، بل رسالة سياسية مُتعدّدة الأوجه بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي، تعمل على تأكيد الطابع "النبوي" أو "التاريخي المقدّس" للعملية، ممّا يعزّز الشعور بالحقّ الأخلاقي والديني للحرب، ويعمّق القبول الشعبي للتضحيات والدماء.
وبالنسبة إلى أهل غزّة فهو هيمنة رمزية، تهدف إلى إضعاف المعنويات عبر الإيحاء بأنّ هذه الحرب ليست مجرّد عقاب، بل تنفيذ لـ"إرادة تاريخية مقدّسة" لا تقاوَم.
وبالنسبة إلى العالم الخارجي، يُعَدُّ إرسال رسالةٍ مُبطنةٍ بأنّ إسرائيل في معركتها ليست دولةً علمانيةً فحسب، بل كيان يحمل إرثًا دينيًا يرى في ذاته امتدادًا للرواية اليهودية القديمة، وهي رسالة تلقى صدًى خاصًّا لدى اليمين المسيحي الإنجيلي الداعم لها في الغرب.
البُعد الإيديولوجي للعملية
هذه التسمية لا تنفصل عن صعود تيّاراتٍ دينيةٍ قوميةٍ متطرّفةٍ في مفاصل القرار السياسي والعسكري في إسرائيل، خصوصًا منذ حكومة نتنياهو الأخيرة التي أتاحت حضورًا غير مسبوق لتيّاراتٍ مثل "الصهيونية الدينية" و"حرس الهيكل". هذه التيارات تسعى إلى إعادة تشكيل الجيش الإسرائيلي كـ"جيش يهوديّ رساليّ"، لا كمؤسسة علمانية - وطنية فقط. ومن هنا، تأتي تسمية العمليات بأسماء مثل "عرين الأسود" (سابقًا)، أو "السيوف الحديديّة"، أو "عربات جدعون"، في سياق هندسةٍ دينيّةٍ للخطاب الأمني.
دلالة الاسم في السياق الغزّي... حرب على الجغرافيا والرمز
في غزّة، لا يمكن تجاهل الطابع المُتكرّر للعدوان الإسرائيلي الذي يسعى دائمًا لتحطيم البيئة المدنية والرمزية للمجتمع الفلسطيني. لكن في عملية "عربات جدعون"، تأخذ المسألة بُعدًا إضافيًا: إسرائيل لا تقصف فقط الأنفاق والمواقع، بل تسعى عبر الاسم إلى تأطير الحرب كمعركة "المُختار والتاريخي" ضد "الغريب والطارئ".
قوْلبة الحرب ضمن رموز يهودية توراتيّة وتجريد الطرف الفلسطيني من أي شرعية روحية أو رمزية
المفارقة هنا أنّ غزّة، بكلّ ثقلها الرمزي والوطني والديني في الوعي الفلسطيني والعربي، تُواجه عدوًّا يسعى إلى سلبها حتّى معناها التاريخي، من خلال قوْلبة الحرب ضمن رموزٍ يهوديةٍ توراتيّة، وتجريد الطرف الفلسطيني من أي شرعيةٍ روحيةٍ أو رمزية، كما لو أنّه عدوّ "مدياني" جديد يجب إفناؤه.
المقاومة والردّ على المعركة الرمزية
لكنّ هذا التصعيد الرمزي من جانب إسرائيل يواجه معارضةً فلسطينيةً تتنامى وعيًا وتكتيكًا، إذ تُدرك المقاومة أنّ الحرب لم تعُد محصورةً في حدود الميدان، بل أصبحت تتطلّب تفكيك سرديّة العدو ومواجهتها بروايةٍ مضادّة. فكما تستحضر إسرائيل جدعون، فإنّ الفلسطينيين يستحضرون صمود غزّة، وتاريخ القلاع، والمقاومة في وجه الإمبراطوريات، من صلاح الدين إلى الشهداء المعاصِرين.
الردّ على مثل هذه المعارك لا يكون فقط بالمقاومة العسكرية بل ببناء سرديّة عربية فلسطينية مضادّة تُفكّك رموز العدو
إنّ تسمية عملية عسكرية باسم "عربات جدعون" تكشف عمق التحوّل في بنية العقل الأمنيّ الإسرائيليّ، الذي يزاوج بين القوة المادية والقوة الرمزية، وبين النصر العسكري والنبوءة الدينيّة. إنّ هذا الدمج بين العهد القديم والسلاح الحديث، بين اللّاهوت والصاروخ، هو الذي يجعل الحرب أكثر تعقيدًا، وأكثر تهديدًا لمستقبل المنطقة.
وفي هذا السياق، فإنّ الردّ على مثل هذه المعارك لا يكون فقط بالمقاومة العسكرية، بل ببناء سرديّة عربية - فلسطينية مضادّة، تُفكّك رموز العدو وتُعيد للمكان والزمان الفلسطيني معناه وقدسيّته الخاصّة، بعيدًا عن تأويلات القوة والقتل.
(خاص "عروبة 22")