كان العام 1831، وكان قد مضى على تاريخ العبودية؛ ذلًا وسوطًا بل وفلسفة فيما سُـمّي بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ما يزيد على قرنين كاملين من الزمان، جرى فيهما شرعنة الظلم بمقولات دينية تبريرية، أو فلسفية تقوم على أفضلية العرق الأبيض وحقّه في الهيمنة. أيامها، كما نعرف جميعًا لم يكن أمام أيّ من أولئك المقهورين أيّ أفق، أو أيّ أمل في إمكانية المقاومة لنظام ترسّخ وبدا مستقرًا. تحكمه أعراف أولئك السادة الأقوياء المسلّحين الأثرياء، أصحاب السلطة والهيمنة والسلاح.
في أغسطس/آب من ذلك العام كان نات تيرنر (Nat Turner) عبدًا شابًا لا يتجاوز الثلاثين من عمره، وكان قد نجح في تنظيم ما اعتبره المؤرخون "الثورة" الأولى الفعّالة في تاريخ مناهضة العبودية في الولايات الأمريكية. يومها لم يكن الشاب وأتباعه السبعة يملكون فعليًا غير إيمانهم بأن "لم يعد لديهم ما يخسرونه"، وعددًا من الفؤوس والمناجل المستخدمة في الحقول. ومتسلّحين باليأس قبل الأمل، بدأوا مسيرة "دموية" بكل المقاييس، ذبحوا في بدايتها عائلة مالكه الأبيض أثناء نومهم قبل أن ينتقلوا في أنحاء فرجينيا ليقتلوا كل أبيض يلقونه في طريقهم.
تمرّد نات تيرنر الدموي لفت الانتباه إلى الحقيقة الأزلية التي يتناساها عادةً المغترّون بقوّتهم "لا أمن ولا استقرار بلا عدالة"
وفي طريقهم "الدموي" هذا عبر مزارع الولاية الجنوبية، انضمّ إليهم عدد محدود من العبيد "المقهورين"، قبل أن يواجههم "جيش" نظامي قوامه ثلاثة آلاف من العسكريين المدجّجين بالسلاح. وكانت نتيجة المواجهة "غير المتكافئة" حتمية، قُتل مَن قُتل من المتمرّدين وجيرانهم، وأهاليهم، وأطفالهم، وغيرهم من السود الذين لم يكونوا قد شاركوا أصلًا، أو حتى يعرفون بأمر التمرّد. ولكنه "القتل على الهوية"، ليس ذلك فقط بل كانت النتيجة الظاهرة أن زادت حياة العبيد سوءًا بسبب ما كان من "عقاب جماعي"، وإجراءات انتقامية.
لم يكن مشهد رأس نات تيرنر المعلّقة بعد شنقه مع رؤوس رفاقه على أفرع الأشجار في المزرعة الفرجينية نهاية القصة، بل بدايتها كما يقول المؤرّخون، فرغم ما جرى ترويجه من "شيطنة" للمتمرّد الأسود، الذي اتّهم يومها بـ"التعصّب الديني"، إلا أنّ تمرّده الدموي الذي لا تخفى أسبابه على أحد لفت الانتباه إلى الحقيقة الأزلية التي يتناساها عادةً المغترون بقوّتهم "لا أمن ولا استقرار بلا عدالة"، وأصبح نات تيرنر بطلًا أسطوريًا، يحتلّ مكانةً مرموقة في التاريخ الأمريكي، ويدرس التلاميذ الأمريكيون قصّته كجندي شهيد في حرب تحرير العبيد: "قتل البيض، لأنهم كانوا يقتلون الزنوج". هكذا يقول الدرس.
في حوار مهم (بحكم أطرافه) دار قبل أيام على موقع للتواصل الاجتماعي، وشاهده ما يقرب من نصف مليون من المتابعين، قارن نورمان فلينكشتين؛ وهو أستاذ جامعي أمريكي يهودي نجا والداه من المحرقة بين ما فعله "مقاومو" حماس في السابع من أكتوبر 2023، وما فعله نات تيرنر في أغسطس 1831، معتبرًا أن لم يكن أمام أولئك "الغزّاويين"، اليائسين المحاصرين في سجنهم الكبير غير الانتقام لكل ما فقدوه من أحباء في الغارات الإسرائيلية التي لم تتوقف لعقود.
على الناحية الأخرى من الأطلنطي، كان العام 1943، وكان الحيّ اليهودي في وارسو أكبر حيّ (جيتو) يهودي في أوروبا التي تحتلّها ألمانيا النازية، وكان الحيّ المغلق يؤوي ما يقرب من النصف مليون من اليهود. في أبريل من هذا العام، ورفضًا لعمليات "الترحيل القسري"، قامت مجموعة صغيرة من شباب الحيّ غير المسلّحين سوى بمسدسات وقنابل يدوية بدائية بتمرّد أسفر عن مواجهة "غير متكافئة" مع قوات الأمن الألمانية الخاصة المعزّزة بالمدفعية والدبابات.
ما أشبه اليوم بالبارحة... ضَرَب الألمان الحيّ اليهودي في وارسو حتى تمّت تسويته بالأرض وقتلوا 7 آلاف من سكانه
وكانت النتيجة المتوقعة "نازية" بامتياز: قام الألمان بضرب الحيّ بأكمله حتى تمّت تسويته بالأرض. وفي 16 مايو من ذلك العام، بعد شهر واحد من التمرّد الذي سُمّي "انتفاضة وارسو"، كتب يورغن ستروب؛ قائد القوات الخاصة الألمانية في تقريره اليومي إلى برلين "ما كان الحيّ اليهودي في وارسو لم يعد موجودًا".. ما أشبه اليوم بالبارحة.
تقول المصادر اليهودية إنّ الألمان قتلوا في عقابهم الجماعي لأهل الحيّ سبعة آلاف من سكانه، واعتقلوا سبعة آلاف آخرين. وتقول الرواية إنّ قائد التمرّد عندما سُئل عن مبرّر خطوته تلك "رغم حتمية الخسارة"، ردّ بالقول: "في كل الأحوال سنموت، ولم نكن نريد أن نترك للألمان تحديد الموعد".
وبعد،،
فإذا كان التاريخ خير معلّم، فالحكايتان، على اختلاف شخوصهما مهداتان إلى الذين، رغم سبعة عقود من التشريد والاحتلال، وسبعة عشر عامًا من الحصار والإذلال والقتل اليومي لا يتردّدون، وهم جالسون إلى أرائكهم الوثيرة في طرح السؤال الاستنكاري: "لماذا فعل الفلسطينيون ما فعلوه؟".
(خاص "عروبة 22")