هناك هوّة يصعب ردمها بين المُنظّرين الاستراتيجيين للدول وبين علماء الاجتماع. ففي الوقت الذي تهتم فيه الفئة الأولى برسم إطار عام للسياسات، وتحاول إيجاد هندسة مناسبة لها، فإن الفئة الثانية تدرس الآليات التي تحكم المنظومات الاجتماعية، وتُظهر ما فيها من تعقيدات، وتقدّم تصوراتها المنهجية حول مدى استجابة تلك المنظومات للتغيّرات السياسية، والهوة المقصودة هي الهوة بين مستويين، الأول لا يرى أصحابه سوى صنّاع القرار ومصالحهم، والثاني يدرس أصحابه احتياجات الفئات الاجتماعية انطلاقاً من تموضعها الطبقي والمهني والأيديولوجي.
تعود هذه الهوّة اليوم إلى بؤرة الاهتمام، مع تزايد الحديث عن إعادة هندسة الشرق الأوسط، حيث تطرح تصورات حول علاقات إقليمية جديدة، أو تستعاد تصورات مطروحة سابقاً مع تعديلات عليها، كما في تصوّر شمعون بيريز، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، للشرق الأوسط، الذي قدّمه في كتاب بالعنوان نفسه عام 1994، وفيه مقارنة بين ما يمكن أن يكون عليه السلام في منطقتنا، وبين مثال الاتحاد الأوروبي، وفي هذه الاستعادة، يأخذ المنظرون الاستراتيجيون مكانة مهمة في طرح خرائط لطرق المستقبل، بحيث تُصفّر المشكلات بين الدول، ويحلّ السلام فيما بينها، وتطبّع الشعوب مع بعضها بعضاً.
وضمناً، تحمل كلّ هذه الخرائط وعوداً للناس بمستقبل أفضل على المستويين الاقتصادي والمعيشي، مدعومة بالأرقام والتوقّعات، فمن الطبيعي بمكان أن يتضمن أي منتج سياسي مثل تلك الوعود، لكن الدرس التاريخي يذكرنا كلّ مرة بأن العديد من الخرائط التي عرفها التاريخ المعاصر لمنطقتنا لم يكتب لها النجاح، مع أنها أيضاً كانت مدعومة بالأرقام والنتائج، وقدّمت وعوداً إلى الشعوب بمستقبل أفضل، يزدهر فيه الاقتصاد، وتتحسّن فيه الظروف المعيشية، بالإضافة إلى ربط تلك الوعود بمنظومة قيمية تلامس وجدان ومصالح أبناء المنطقة.
عملياً، يصطدم أي مشروع استراتيجي لمنطقة إقليمية بعوائق متعددة، ابتداءً من إمكانية إحداث توافقات بين الدول المعنية، مروراً بالأمن والاقتصاد، وصولاً إلى مدى قبول ورضا الشعوب عن المشروع نفسه، وغالباً تزداد تلك العوائق أو تقلّ أهميتها بناءً على طبيعة الفوارق النوعية بين الدول نفسها، خصوصاً طبيعة الأنظمة السياسية، ومدى التقدّم الاقتصادي، أو منظومة القيم المرتبطة بالدولة. فعلى سبيل المثال، وجّهت انتقادات عديدة للمقارنة التي عقدها شمعون بيريز بين الاتحاد الأوروبي وبين دول منطقة الشرق الأوسط، لجهة عدم إعطاء الفوارق النوعية بين التجربتين ما تستحقّه من أهمية.
تعاني دول منطقة الشرق الأوسط فوارق نوعية بين أنظمتها السياسية، وبالتالي فوارق نوعية بين الدساتير الناظمة للعقد الاجتماعي فيها، أو القوانين الناظمة للحياة السياسية، وعلاقة المؤسسات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ببعضها بعضاً، ومستوى الشفافية والحوكمة في كل بلد، عدا عن الفوارق الكبيرة في الدورة الاقتصادية، وما يرتبط بها من مؤشرات، من مثل التعليم، والتمويل، ومراكز البحث، والكفاءات، وكل تلك الفوارق تكاد تغيب كلياً عن الخطط التي يطرحها المُنظّرون الاستراتيجيون حول مستقبل منظومة الأمن والاستقرار في منطقتنا.
الدراسات الاجتماعية، بما فيها علم الاجتماع السياسي، تأخذنا إلى مستويات أخرى، تضع أمامنا منظومات اجتماعية محدّدة، لها سياق تاريخي، ولها شروط استمرار موضوعية، ولها منابع تغذيتها، ولها دورها في الإطار العام، سلباً أم إيجاباً، وبالتالي، تجعل من إمكانية فهم وتوقّع نجاح أي محاولة لهندسة الدولة واتفاقاتها الخارجية ممكناً، انطلاقاً من مستوى تأخر أو تطوّر المنظومات الاجتماعية نفسها.
على سبيل المثال، إن بلدان المشرق العربي (العراق، سوريا، لبنان)، جزء أساسي في الخرائط المطروحة للشرق الأوسط، لكن هذه الدول الثلاث تعاني منظوماتها الاجتماعية أزمات مركبة، إذ إنه بالإضافة إلى أزمات الدولة ومؤسساتها، هناك أزمة التركيبة الطائفية، وما يترتّب عليها من مشكلات سياسية وأمنية واجتماعية وحتى اقتصادية، وهناك خصوصية اقتصادية لكلّ واحدة من هذه الدول الثلاث، ففي الوقت الذي يعيش فيه العراق دولة وشعباً على الريع النفطي، فإن مستويات الفقر في لبنان وسوريا، تعدّ من بين الأسوأ في العالم، ففي سوريا يعيش أكثر من 90% من السكان تحتّ خطّ الفقر، مع وجود انهيار كبير في الأمن المائي، وهو انهيار يهددّ الحياة الإنسانية والبيئية على حدّ سواء.
هل يمكن للدول أن تنخرط في مشاريع استراتيجية، وهي تعاني أوضاعاً غير مستقرة دولتياً/ مؤسساتياً، وتفتقد إلى دورة إنتاج وطني، ولديها أزمات مركبة ومزمنة، أم أن تلك الأوضاع والأزمات بمجملها تشكل عائقاً أساسياً أمام الطموح في الانخراط الخارجي؟
قد لا تكون هناك إجابة قاطعة جامعة لهذا السؤال، لكن السؤال ذاته يطرح احتمالات محددة، إما أن تكون المشاريع الكبرى بوابة لتحديث الدولة وخروجها من أزماتها، وإما أن تكون عبئاً على الدول على المديين المتوسط والبعيد، وإما تزيد من احتمالات الانفجار الداخلي لأزمات لم يخمد جمرها بعد، خصوصاً إذا كانت الغاية السياسية من الانخراط هي القفز عن الأزمات الداخلية، حينها تغيب الفوارق بين الحرب وبين السلام من حيث النتائج، ولهذا فإن المنظّر الاستراتيجي في هذه الحالة، وهو في اعتقاده أنه يبني خريطة للسلام، فإنه يؤسس عملياً لسلسة من الانفجارات.
(الخليج الإماراتية)