ثقافة

"الأوبريتات" العربية.. آهات استوطنت في الوجدان!

المغرب - خديجة عليموسى

المشاركة

تُعدّ "الأوبريتات" واحدة من أهم وسائل التعبير الفني في الثقافة العربية، حيث تجمع بين الأداء المسرحي والموسيقى والكلمات لإيصال رسالة محدّدة بطريقة جذّابة ومؤثّرة، ومن بينها يبرز أوبريت "الحلم العربي" الذي ظلّ راسخًا في وجدان المواطن العربي، تغنّت به الشعوب خلال منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وترنّمت به الأجيال المتعاقبة، ويتردّد صداه بالمسارح والملتقيات الفكرية والمهرجانات الفنية والأدبية، مثل نشيد وطني يذكي الشعور بفخر الانتماء للأمّة العربية ويعكس الأمل في مستقبل عربيّ أفضل.

قبل ذلك، شهدت الساحة الفنية العربية مجموعة متنوّعة من الأعمال التي جمعت مواهب فنية من مختلف البلدان العربية، وتعكس التنوّع والثراء الثقافي في العالم العربي، لعلّ أبرزها أوبريت "الوطن الأكبر" أو "وطني حبيبي" الذي شاركت فيه مجموعة من الفنانين عام 1960، تلاها العديد من الأوبريتات، لكن يظلّ "الحلم العربي" في سنة 1998 و"الضمير العربي" سنة 2008 من أبرز وأشهر هذه الأعمال.

ويوضح أحمد عيدون، الكاتب والباحث في الموسيقى، لـ"عروبة 22" أنّ "الأوبريتات وإن كانت قد اتّسمت بمستواها الكبير في الصياغة الشعرية والموسيقية وكذلك الأمر بالنسبة للإخراج الفني، فإنها تعكس كذلك ملامح مختلفة من الوعي بالوجدان العربي"، لافتًا إلى أنّ أوبريت "الوطن الأكبر"، احتفى بـ"المفهوم الناصري" للوحدة العربية، فيما تغنّى "الحلم العربي" بالرغبة في استمرار الأمل، بينما تسلّلت نبرة من اليأس مع استنهاض الهمم في "الضمير العربي".

إنّ مثل هذه الأعمال تُعتبر نموذجًا للفنّ الذي يخدم القضايا العربية، يقول عبد السلام الخلوفي، فنان وباحث  في الموسيقى لـ"عروبة 22"، ويضيف:  "ليس أقدر من الفن ليكون جسرًا سريعًا وفعّالًا من أجل إنتاج أعمال مشتركة تخدم القضايا العربية، فلغة الروح ولغة الوجدان، تكون لها أفضلية الوصول للمتلقي، مهما كانت لغة تخاطبه اليومي، انطلاقًا من البلد الذي ينتمي إليه".

ويشدد الخلوفي على أنّ الفن يُعدّ من بين أرقى وسائل التواصل، لهذا فإنه "لتحقيق تواصل فعّال بين الشعوب، تواصل يجمع ولا يفرّق، لا بدّ من أن يسلك درب الفن، لأنه في كثير من الأحيان قد يؤدي الخطاب المبني على المنطق وعلى العقل إلى كثير لجاج، وربما لسوء فهم غير مقصود، بينما الخطاب الفني الذي يتوجّه أساسًا للوجدان، يكون فعّالًا بشكل أكبر، ما دام يلامس أجمل ما في الإنسان وهي إنسانيته، بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الإثني أو العقدي".

قصة نجاح لم تدم

يُعد أوبريت "الحلم العربي" من أنجح الأوبريتات في العصر الحديث، وهو الذي أنتجه أحمد العريان وألّفه الشاعر مدحت العدل، والموسيقيون صلاح الشرنوبي وحلمي بكر وحميد الشاعري. وشارك فيه ألمع نجوم الغناء في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.

ورغم أنّ "الحلم العربي" رأى النور في عام 1998، برعاية وإنتاج من الإمارات العربية المتحدة، إلا أنّ الزخم الحقيقي لهذا الأوبريت لم يتجلّ إلا مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2000 وما عرفته من تعاطف شعبي عربي كبير.

أصبح "الأوبريت" رمزًا للمقاومة والتعبير عن آمال الشعوب العربية في تحقيق الوحدة والتضامن والتآزر، من أجل مواجهة التحديات السياسية أو الصراعات الإقليمية التي تعصف بالمنطقة، فقدّم بذلك رسالة قوية حول أهمية تعزيز الوحدة والتعاون بين الشعوب وأهمية التصدي للصعوبات والأزمات وبناء مستقبل يسوده الأمان والسلام وتحقيق العدالة والحرية.

وخلال سنة 2008، أصدر منتج أوبريت "أجيال ورا أجيال"، أحمد العريان، "أوبريت" جديدًا تحت اسم "الضمير العربي" والذي كانت القضية الفلسطينية، وما كان يقع بمنطقة الشرق الأوسط، حاضرة فيه، إلى جانب التركيز على التسامح الديني من خلال الكلمات الواردة فيه، كما سلّط الضوء على القضايا الإنسانية والاجتماعية في المنطقة العربية، وحالة التعبير عن الوحدة والتضامن بين الشعوب العربية في وجه التحديات والأزمات. وعرف هذا العمل الفني مشاركة كثيفة لفنانين من مختلف الأعمار والبلدان العربية، غير أنه لم يحظَ بشهرة أوبريت "الحلم العربي" الذي ظلّ نموذجًا فريدًا في الأوبريتات العربية.

ويبدو أن الأعمال العربية المشتركة من هذا النوع لا تتميّز بالاستمرارية، وتظلّ جد محدودة، إذ يقول يقول الخلوفي في هذا السياق: "حتى الآن لا زالت الأعمال العربية محتشمة جدًا وغير منتظمة، فلا نكاد نحصي على أصابع اليد الواحدة عدد الأعمال الفنية العربية المشتركة".

وتابع: "ربما نحتاج إلى القيام بعملية حفر أركيولوجية في تاريخ الفن العربي، لإيجاد بعض النماذج، وحتى في حالة إيجادها تكون على فترات متباعدة جدًا، وتظهر بشكل فجائي وتختفي بسرعة أفول الشمس".

وبحسب الخلوفي، فإنّ المطلوب لكسب استمرارية مثل هذه الأعمال "هو إيجاد إطار للعمل الفني المشترك الدائم والمنتظم، ضمن مؤسسة ترعاه، من شاكلة المجمّع الموسيقي العربي في إطار جامعة الدول العربية، فالمبادرات التي يُكتب لها الاستمرار هي تلك التي تتمّ في إطار مؤسساتي".

متى يُعاد الحلم؟

لكنّ أداء الفن لرسالته ومساهمته في وحدة الصف العربي تعترضه تحديات، إذ إنّ "بعض مفاتح التحديات التي يواجهها عالمنا اليوم موجودة في العمل المشترك وفي تكاتف الجهود، ولا شكّ أن التحديات الكثيرة التي تعرفها الدول العربية، تجعل مسألة توحيد جهودهم على أكثر من مستوى مسألة لها أهمية قصوى"، بحسب الخلوفي، ومن هذا الباب يرى "الحاجة مُلحّة لإنتاج أعمال فنية مشتركة، تعبّر عن آمال الشعوب العربية، خاصة وأنّ الفن وعاء جيد لحمل رسائل قد تصل بكل يسر وسهولة لأكبر قدر من المتلقين، لا سيما في ظلّ الثورة الرقمية والسلطة الكبرى التي تملكها وسائل التواصل الاجتماعي".

إذن الوضع الراهن في عالمنا العربي يكشف عن الحاجة إلى أعمال فنية عربية مشتركة، تعيد روح التغني بالأوطان وغرس قيم الوحدة والتضامن وكل القيم الإنسانية الرفيعة، على شاكلة إنتاجات تضاهي أوبريت "أجيال ورا أجيال... هتعيش على حلمنا"، غير أنّ عيدون يلفت الانتباه إلى أنّ مثل هذه الأعمال تظلّ "تحركها على الخصوص الأوضاع السياسية العامة في العالم العربي، ويبقى إنتاجها الاستثنائي مكلفًا بالنظر لما تقتضيه الصناعة الموسيقية، ما لم تتظافر جهود الدول العربية نحو إنتاج مشترك ومتناغم مع عمل متضامن في كافة المجالات الأخرى، السياسية والاقتصادية والثقافية مما يؤسس لوحدة عربية فعلية متجاوزة للشعارات".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن