في هذا الإطار، عملت إسرائيل منذ 2005 على اختلاق الذرائع وصب العراقيل التي من شأنها إقصاء القضية الفلسطينية من دائرتَيّ الاهتمام الإقليمي والدولي، ما استوجب صياغة سردية تؤمّن لها التعاطف والدعم خاصة من الحليف الغربي.
وتقوم هذه السردية على أنّ إسرائيل تتعرّض لخطر داهم من شأنه أن يؤثّر على (مستقبلها، وعملية السلام، والمشروعات والمصالح الغربية في الإقليم). إنها السردية التي تقتطع من الواقع ما يخدم مصالحها واستبعاد كل ما قد يدينها بما يضمن ألا يتسرّب لدى الشريك الغربي أية تفاصيل عن الواقع وما يجري فيه.
إنها السردية "المونتاج" حسب عالِم التاريخ والمصريات الألماني يان أسمن.
ومن خلال الضغط والابتزاز والعمليات السرية خاصة في الداخل الإيراني والاستغلال الإعلامي، إضافة إلى الانشغال العربي بـ"حراكات/انتفاضات/ وصراعات" الربيع العربي"، استطاعت إسرائيل الفوز بالكثير من المكاسب بدعم أمريكي ومباركة أوروبية.
لم يكن السلام والاستقرار في حقيقته إلا "سلام النخبة الثروية"
ويشار إلى أنّ إسرائيل كانت حريصة في تسويقها للسردية المونتاج، على التأكيد لدى الشريك الغربي على مدى حرصها على السلام وعلى استقرار المنطقة، وواقع الأمر لم يكن هذا السلام وذاك الاستقرار في حقيقته، إلا "سلام النخبة الثروية"؛ وهكذا، وبمرور الوقت تراجعت القضية الفلسطينية. وفي المقابل تزايد باطراد التنكيل الإسرائيلي للضفة والقطاع بصورة غير مسبوقة منذ 2008، وبالطبع تم حصار السردية المقاومة التي تعبّر عن الواقع الأليم للفلسطينيين بشتى الوسائل لصالح السردية المونتاج السلامية خاصة مع المشروعات/الصفقات الإقليمية الاقتصادية الضخمة المشتركة بين المركز الرأسمالي الغربي وامتداداته التابعة في المنطقة.
إنّ أخطر ما جرى في العقدين الأخيرين، بفعل السردية السلامية المونتاج المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والمباركة من أوروبا يمكن رصد ما يلي:
أولًا: حصار السردية المقاومة الحيّة والواقعية للتنكيل الإسرائيلي (العسكري، والمعيشي)، للشعب الفلسطيني منذ 2008.
ثانيًا: القطيعة مع السردية التاريخية الفلسطينية التي تعرّضت للاستعمار الاستيطاني، وطرد المواطنين، وتهويد القدس، وبناء المستوطنات.. إلخ. ما مكّن، إسرائيل بالأخير، من مواصلة سياسة الاستعمار والاستيطان للأراضي في الحاضر والمستقبل وضمان الاعتراف الأمريكي، ولما لا وقد تم تغييب القضية الفلسطينية بملفّاتها العالقة منذ سنة 1948 وإلى الآن.
والسؤال ما الذي سيبقى لفلسطين؛ الإجابة: إذ كان هناك ما سيبقى للفلسطينيين فهو لا يزيد عن شراكة محدودة لنخبتها في أية صفقات اقتصادية سيتم تنفيذها في المنطقة مقابل غض البصر عن الحقوق السياسية التاريخية. وهكذا، كما أشرنا من قبل، سيكون محكومًا على الشعب الفلسطيني القبول بالأمر الواقع وبأي هندسات (جغرافية، وطبوجرافية، وديموجرافية) تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة أو مغادرتها كما حلمت دومًا الحركة الصهيونية منذ هرتزل.
لقد جدّد "طوفان الأقصى" حق المقاومة ضد المحتل الاستيطاني الذي لا يتوقف عن التوسّع والتمدّد في إنشاء مجتمعات استيطانية عسكرية الطابع وممارسة ما يستدعيه هكذا توسّع من ضم سافر للأراضي المحتلة والإبادة المقصودة والتهجير القسري. أخذًا في الاعتبار أنّ هكذا مجتمعات لا تنشأ بالحق إنما تنشأ بالقوة وبالأمر الواقع.
كشف "طوفان الأقصى" سوء نيّات إسرائيل ضد من أقامت معهم معاهدات سلام وأنعش الذاكرة بالسردية المقاوِمة
كما كشف "طوفان الأقصى" سوء النيات المبيّت من قبل إسرائيل ضد من أقامت معهم معاهدات سلام وهو ما تجلّى في الرغبة المضمرة/المعلنة، في آن واحد، في إزاحة المواطنين الفلسطينيين من قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وجعلها منطقة عازلة لا تكون بعيدة عن النفوذ الإسرائيلي، حسب ما ورد في المخططات الصهيونية التي تعود لمطلع القرن العشرين.
المحصلة، أنعش "طوفان الأقصى" الذاكرة - ليس الفلسطينية والعربية فقط، بل والعالمية أيضًا - بالسردية المقاوِمة الحيّة التاريخية والحاضرة، ودحض السردية السلامية "المونتاج"، وأكد بما لا يدعو مجالًا للنقاش أنّ عملية السلام التي انطلقت منذ نهاية السبعينيات بمساراتها المختلفة لم تكن عادلة يقينًا، ما أكسب "الطوفان" دعمًا شعبيًا قاعديًا عابرًا للأجيال والأيديولوجيات والانتماءات والقارات، كذلك تقديرًا لشعب غزة وإدراك معنى ما يقومون به والذي أوجزه محمود درويش في كلماته التالية:
"غزّة برتقال ملغوم
وأطفال بدون طفولة وشيوخ بلا شيخوخة ونساء بلا رغبات
لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب
إنها مدينة فقيرة صغيرة تقاوم
منكبة على الرفض
الجوع والرفض.. العطش والرفض.. التشرّد والرفض.. التعذيب والرفض.. الحصار والرفض.. والموت والرفض
إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة".
(خاص "عروبة 22")