شعار لترسيخ تجزئة الأمة

عبر عشرات السنين الماضية أُلّف وانتشر شعار يبدو مضحكاً ولكنه خبيث؛ وهو أن “العرب اتفقوا على ألا يتفقوا”، وبالطبع قصدت الدوائر الاستعمارية من خلال تبنّيه ترسيخ الإيمان بهذا الشعار في نفوس الأجيال العربية المتعاقبة وعقولها بوصفها جزءاً ثقافياً سياسياً من مشروعها التجزيئي السياسي الكبير للوطن العربي ولكل مكوناته وأنشطته.

ولكن هل حقاًَ أن وحدة هذه الأمة الحقيقية الفاعلة قد أصبحت حلمًا أثناء منامها التاريخي الحضاري الحالي الطويل؟ من تجارب ومشاهد عرفتها طوال مسيرتي السياسية أستطيع القول بأن تلك المقولة ليست أكثر من أكذوبة طفولية بهلوانية.

في مؤسسات أنشطة قومية مختلفة كالمؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي الإسلامي، ومؤتمر الأحزاب العربية، والمجلس العربي للاختصاصات الصحية، ومجالس وزراء الصحة العرب، ووزارة التربية والتعليم، ومؤسسات الجامعة العربية التنموية أو ذات الوزارات على مستوى الخليج العربي، وفي اتحاد جمعيات الهلال والصليب الأحمر العربية على سبيل المثال لا الحصر كانت الأهداف وحدوية أو على الأقل تنسيقية تضامنية، وكانت المناقشات جادة ومتجهة لتغيير الواقع العربي وليس التعايش معه، وكان التنظيم ديمقراطيًا يساوي بين الدول الصغيرة والكبيرة في التصويت لاتخاذ القرارات. كانت هناك بالطبع وجهات نظر متباينة، ولكنها كانت أخوية لا حذلقة فيها ولا تأمّر من قبل مجموعات صغيرة.

ولهذا كان يُحسب لوزن الكتلة العربية صاحبة المواقف الموحدة في مؤسسات مثل منظمة الصحة العالمية أو اليونسكو، وللناشطين من أعضائها ألف حساب حتى لو جاؤوا من دول عربية صغيرة.

والشعور العربي الوحدوي نفسه هو الذي تحدّى وتخطى الحدود عندما قامت أحزاب وتكتلات وحدوية كان أعضاؤها ينتمون إلى كل الأقطار العربية؛ مثل تكتلات أو أحزاب البعث العربي أو الناصري، والقوميين العرب، بالرغم من كل أخطائها في الواقع.

كان هناك محاولات التوحيد في كل مكان وعلى كل مستوى؛ فاتحادات الكُتّاب العرب، والجامعات العربية، والمحامون العرب، والغرف التجارية العربية، وغيرها كانت هي الأخرى تصدح بألحان الوحدة، والتنسيق، والتعاضد، أو الاحتجاج ضد الاستعمار والصهيونية بصوت واحد.

كان حلم الوحدة هو الوعي اليقظ النشط، وشيطان التجزئة هو النائم في الفراش. قاد كل ذلك أحيانًا إلى وحدة انتهت أو وحدة تشوّهت وتخلّى عنها الناس، لا لأن حلم الوحدة ليس صحيحًاَ ومنقذًا ونبيلًا وسبيلًا إلى نهوض الأمة، وإنما لأن بعض من جلسوا على عرش حركات الوحدة ليقودوها إما أنهم تصرفوا ببلادة وإما تعاملوا مع المقدس باستزلام، وكانوا شعبويين أكثر من كونهم أنبياء نضال أو أمثلة تُحتذى. وكان أسوأ ما قبلته تلك الحركات النبيلة دخول العسكرية في السياسة، وإصرارها على جعل الشعوب كتلًا خرساء تتفرّج وتصفّق بدلًا من أن تشارك بجدارة في اتخاذ القرارات المصيرية، بما فيها تفعيل ذلك الشعار النبيل.

وهكذا انتهت مشاعر الوحدة العربية لتصبح نكتة سمجة للاستهزاء بهذه الأمة، كما يردّدها الببغاويون وهم يضحكون ببلادة وطفولة رعناء.

إذا كنا نريد إنقاذ هذه الأمة من استحواذ الاستعمار على مقدراتها فلنفتح باب مناقشة وتفعيل موضوع الوحدة على مصراعيه؛ ذلك أنه شعار إنقاذ وليس موضوع نكتة استهزائية في “حفلة تحشيش”.

وأخيراً، إذا كان لا بد من أن نضحك فلنستمع إلى ردود الفعل كلما وقع عدوان على مدينة فلسطينية، أو أُزهقت روح شاب فلسطيني محارب، أو كلما أحرق أحدهم قرآن أمة الإسلام. فوصف هذه الأمة بأنها أمة الاحتجاج الكلامي البعيد عن كل فعل هو الذي يليق بأن يكون نكتة الزمن الرديء الذي تعيشه.

(الخليج)

يتم التصفح الآن