نجحت بلدان الاتحاد الأوروبي في بناء تجربة "وحدة" وأسّست تكتلًا إقليميًا قويًا لا يلغي خصوصية كل بلد ولا الدولة الوطنية، بحيث بات من الصعب اعتبارها تجربة "وحدوية" بالمعني الذي عرفناه في كتاباتنا في الوطن العربي، تمامًا مثلما من الصعب وصفها بأنها نتاج للفكر "القومي الأوروبي" كما حدث أيضًا في الحالة العربية التي عرفت كتابات وحدوية قيّمة لباحثين ومناضلين كبار، أصلوا للوحدة العربية برؤى مختلفة، ولكنها ظلّت حبيسة دوائر التنظيمات والأحزاب القومية ولم تتحوّل لمشروع وحدة يتفاعل مع تفاصيل الواقع المعاش ويقبل بجانب من شروطها ويعمل على تغيير جوانب أخرى.
ولعل أهمية التجربة الأوروبية تكمن في أنها صنعت هذه الوحدة عبر صناعة الوعي بها أو كما ذكر "جان مونيه" JEAN MONNET في 1950 مع البدايات المبكّرة للحديث عن الوحدة الأوروبية و"الوعي الأوروبي" حين قال: "أوروبا لم توجد أبدًا، فليس انضمام دول كاملة السيادة للاجتماع في داخل هيئة هو الذي يصنع هويتها، يجب حقيقة خلق أوروبا".
بدأت رحلة الوحدة الأوروبية من خلال توقيع "اتفاقية الفحم والقصدير" عام 1951 في باريس
أما وزير الخارجية الفرنسية الراحل روبرت شومان وأحد رواد الفكرة الأوروبية فقال في الفترة نفسها أنّ أوروبا لن تُصنع بدفعة واحدة، وببناء تكتّل موحّد، إنما من خلال إنجازات واقعية، تخلق أولًا "تضامن الواقع"، فالدول الأوروبية التي عادت لتحصل على سيادتها كاملةً بعد الحرب العالمية الثانية، يجب ألا تتركها بصورة فورية لصالح وحدة فيدرالية أوروبية، إنما يجب أن تتعوّد على التخلّي الطوعي عن بعض جوانب سيادتها في بعض القضايا.
وعليه لم يكن غريبًا أن تبدأ رحلة الوحدة الأوروبية من خلال التوقيع على اتفاقية الفحم والقصدير بين عدد من الدول الأوروبية في 18 أبريل 1951 في العاصمة الفرنسية باريس، وكان الهدف هو تسهيل الاستثمار في هذا المجال، وأيضًا حرية حركة رأس المال والعمالة التي تعمل في مجالي الفحم والقصدير، لكي تعتاد الدول الأوروبية الثلاثة التي وقّعت على هذه الاتفاقية على فكرة الاستثمار المتبادل، وعلى الحركة الحرّة لرأس المال، ولم تتطرّق مطلقًا لأي اتفاقات اقتصادية مشتركة أو حتى لسوق واحدة تجمع الدول الأوروبية.
مشروع الوحدة الأوروبية لم يحكمه الشعار الأيديولوجي إنما الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي والثقافي
وقد انطلقت تجربة الاتحاد الأوروبي على عكس الخبرة العربية، من الواقع العملي دون أي استعلاء عن تفاصيله، ولم تتجاهل منذ البداية التباينات، بل وأحيانًا التناقضات الموجودة، بين كل دولة أوروبية تحت شعارات "الأخوة الأوروبية" أو "المصير والتاريخ الأوروبي المشترك"، إنما اعترفت بهذه التباينات واعتبرت أنّ التعامل الواقعي معها هو نقطة الانطلاق لتأسيس مشروع الوحدة الأوروبية، الذي لم يحكمه الشعار الأيديولوجي إنما الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي حكمه إطار وتصوّر سياسيّ رحب، وليس نصًا أيديولوجيًا مغلقًا.
ولعلّ هذا ما جعل مشروع الوحدة الأوروبية منذ انطلاقه في روما عام 1957 محاولة دائمة لصياغة واقع أوروبي جديد ينحو بشكل متدرّج نحو "الوحدة المرنة"، ويعمل علي بناء معايير أوروبية شبه موحّدة تحاول كل دولة أوروبية أن تكيّف نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة عليها، حتى يمكنها أن تصبح جزءًا من تجربة الوحدة الأوروبية أو كما يسمّيه البعض "النادي الأوروبي".
قوانين الاتحاد الأوروبي مصوّبة نحو المجتمع... والوحدة الأوروبية قضية تخصّ مصالح الشعوب
وتميّزت هذه المعايير بأنها تدخل مباشرةً في نسيج المجتمع، وتعمل على ضبط أداء مؤسساته وفق معايير تفصيلية شاركت في صياغتها الدول الأوروبية التي صنعت مسيرة الوحدة، فهناك معايير سياسية تخصّ قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهناك أيضًا معايير اقتصادية لا تتعلّق فقط بمستوى معيّن من النمو الاقتصادي، إنما أيضًا قوانين تخصّ الإعفاءات الجمركية بين الدول الأعضاء، والسوق المشتركة، وهناك قوانين تنظّم تصدير الحاصلات الزراعية بين الأعضاء، وعملية صيد الأسماك، وأخيرًا قوانين تنظّم حرّية المعلومات والإعلام والأنشطة الثقافية والتعليم.
وهكذا فإنّ قوانين تجربة الاتحاد الأوروبي كانت مصوّبة أساسًا نحو المجتمع، ولم تكن مشروعًا فوقيًا وضع أهداف سياسية عليا منعزلة عن الواقع المعاش، بل حاولت أن تحوّل مشروعها السياسي إلى قضية مجتمعية، يساهم في بلورته المواطنون والأحزاب والمجتمع المدني، بحيث أصبحت قضية الوحدة بعيدة عن كونها قضية إستراتيجية عليا تخصّ النخب إنما هي قضية تخصّ مصالح الشعوب، وبالتالي سعت منذ البداية إلى التعبير عنها، ونجحت إلى حدّ كبير في دمج القيمة العليا المتمثلة في الوحدة الأوروبية المرنة في الواقع والهموم اليومية المعاشة.
تجاهل التجربة "المصرية السورية" للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي أدى إلى انهيار مشروع الوحدة
صحيح أنّ هذه التجربة لم تخلُ من مشاكل كثيرة وخاصة فيما يتعلّق بوحدة القرار السياسي لدول الاتحاد والانقسامات بين الدولة المختلفة والتنافس الداخلي، والشكوى الدائمة من "جمهورية الموظفين" والبيروقراطية داخل المفوضية الأوروبية، بالمقابل ظلّ نموذج الشراكة الاقتصادية والتنموية بين دول الاتحاد وحضوره على الساحة الدولية كقوة اقتصادية مؤثّرة أحد مظاهر النجاح.
أما على الجانب العربي، فمن المهمّ مراجعة أساب عدم تحقيق الوحدة العربية ولو بالمعني الأوروبي، وأيضًا أسباب فشل تجربة الوحدة اليتيمة التي عرفها العرب في العصر الحديث وهي تجرية الوحدة المصرية السورية، فرغم اكتمال كثير من المعايير السياسية لهذه التجربة ومنها الشعبية الهائلة لجمال عبد الناصر في مصر وسوريا، ووجود مخاطر حقيقية تحيط بالبلدين، إلا أنّ تجاهلها للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الذي يعيشه الشعبان، والتعامل معهما كأنهما شعب واحد وكيان واحد في أمة عربية واحدة جزّأها الاستعمار، أدى بمشروع الوحدة أن يبدو وكأنه "قرار فوقي"، ما لبث أن انهار بسبب وجود واقعين مختلفين يعيشهما الشعبان، بصرف النظر عن وجود قوى "رجعية" استهدفت التجربة، إلا أنه على الأرض وفي الممارسة شعر جزءٌ كبيرٌ من النخب السورية بالتهميش وهيمنة البيروقراطية المصرية، وأنّ الشعبين رغم قربهما لبعض على المستوى الاجتماعي والثقافي إلا أنّ هذا لا يعني أنهما شعب واحد بل يجب الوصول إلى هذه الغاية بشكل تدريجي وعبر برامج وإجراءات تفصيلية في الإدارة والتعليم والاستثمار، وقناعة الناس أنّ مصالحهم في عيشة أفضل تتحقّق بالوحدة.
ستأتي الوحدة العربية إذا آمنّا بالديمقراطية وبشراكات اقتصادية يستفيد منها الناس
إن الاعتراف بهذه التباينات يفتح الباب أمام اكتشاف الوسائل المناسبة لتحجيمها عبر بناء مشروع للوحدة من "أسفل"، لا ينطلق من أنّ الأمة العربية موجودة في 2023 إنما وجدت في مراحل تاريخية طويلة وأنّ هناك تجارب وطنية معاصرة لكل دولة هي نتاج لخبراتها الاجتماعية والسياسية الخاصة وصنعت ثقافة قُطرية من الصعب تجاهلها أو التعالي عليها، لصالح "عموميات التاريخي" التي تستسهل شعار الوحدة على حساب بذل الجهد في صناعة تجربة وحدوية تنطلق من التفاعل المجتمعي بين الأقطار العربية المتشابهة، وتعتبر أنّ الوصول إلى الوحدة بالمعني الكونفدرالي أو الأوروبي أو بتجمّع إقليمي موحّد، هو خيار يعبّر عن تفاعلات جزئية في مجال التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة والثقافة بين شعوب المنطقة، وليس الوصفات الأيديولوجية السابقة التجهيز.
ستأتي الوحدة العربية إذا ربطنا مشروع الوحدة بالواقع واعتبرنا أنه مستحيل على الدول العربية الثرية أن تتّحد غدًا مع الدول الفقيرة، فلا اليمن أو العراق دخلا مجلس التعاون الخليجي لأنّ واقعهما الاجتماعي الاقتصادي والسياسي يختلف عن هذه الدول رغم أنهم عرب وخليجيون، وستأتي الوحدة العربية إذا آمنّا بالديمقراطية وبأنّ الشعوب هي صاحبة المصلحة في الوحدة، وأنّ البداية ستكون بشراكات اقتصادية يستفيد منها الناس وحرّية حركة للبشر قبل البضائع فلا يمكن أن يكون حتى اللحظة هناك تأشيرة دخول بين دول عربية تتشابه في ظروفها الاقتصادية مثل مصر والمغرب العربي، وألا تكون هناك برامج طلابية مشتركة ولا قوانين موحدة تنظّم الاستثمار العربي وتشجّعه وتصنع تكاملًا اقتصاديًا بين الدول العربية يحوّل مشروع الوحدة السياسية التي لا تلغي الخصوصية الوطنية إلى مصلحة اقتصادية لغالبية المواطنين العرب.
(خاص "عروبة 22")