على عكس الصراعات السابقة، من المتوقع أن تلحق الحرب في غزّة خسائر فادحة باقتصاد إسرائيل، على المديين القصير والطويل، وفقًا لخبراء اقتصاديين ومحلّلين.
ومع اختباء السكان في الملاجئ وإجلاء نحو 250 ألف إسرائيلي من غلاف غزّة والحدود مع لبنان، وفرار العمالة الأجنبية، باتت هناك أزمة في سلاسل الإمدادات بأسواق المواد الغذائية، مما دفع إسرائيل للمسارعة لاستيراد الغذاء من الخارج بعدما فسدت المزروعات في الصوب الزراعية بسبب هروب العمالة الآسيوية.
توقّع خبراء اقتصاد أن ينخفض نمو إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي بنحو 15 في المئة بسبب الحرب الحالية
وتزامن ذلك مع هبوط الشيكل إلى أدنى مستوى له منذ 14 عامًا، ما دفع البنك المركزي الإسرائيلي لتخصيص 30 مليار دولار لدعم العملة المحلية، وبلغت خسائر مؤشّر الأسهم القياسي نحو 10 في المئة منذ بداية العام. ولكن الأزمة التي تهدّد اقتصاد إسرائيل أعمق بكثير.
كان اقتصاد إسرائيل البالغ حجمه 500 مليار دولار تقريبًا، واحدة من الاقتصادات الواعدة عالميًا ويقارَن بدول شمال أوروبا في نواحي كثيرة، بفضل نقاط القوة في التكنولوجيا والسياحة، وكان أداؤه جيدًا معظم عام 2023. وكان النمو في طريقه للوصول إلى 3 في المئة هذا العام مع انخفاض البطالة، ولكن الآن خفّض البنك المركزي الإسرائيلي توقّعاته لنمو الاقتصاد إلى 2.3 في المئة.
وتوقّع عدد من خبراء الاقتصاد أن ينخفض نمو إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي بنحو 15 في المئة بسبب الحرب الحالية، مقارنة بانخفاض بنحو 0.4 في المئة فقط خلال الحرب على غزّة في عام 2014، و0.5 في المئة خلال الحرب مع لبنان عام 2006.
تقديرات بأن الحرب ستكلف 51 مليار دولار أي 10 % من الناتج المحلي
وأظهرت تقديرات إسرائيلية أولية مؤخرًا أنّ الحرب على غزّة ستكلف ميزانية حكومة الاحتلال 200 مليار شيكل (51 مليار دولار)، بما يعادل حوالى 10% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل.
والتقديرات الأولية لوزارة المالية الإسرائيلية لتكلفة الحرب على الخزينة "ترتكز على أنّ الوضع لن يمتد لأكثر من عام، ولن يتم الاشتباك في ساحات إضافية، وسيعود جنود الاحتياط إلى العمل قريبًا"، حسبما ورد في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.
وأشار تقييم وزارة المالية الإسرائيلية إلى أنّ "التعافي سيكون بطيئًا والاقتصاد لن يعود إلى ما كان عليه قبل الحرب لسنوات".
أدت الحرب إلى شلل تام في قطاع السياحة الإسرائيلية، حيث تخلو الفنادق من السياح بينما تعج بالهاربين من مناطق الحرب، والذي يدفعون نصف التكلفة، وعلّقت معظم شركات الطيران العالمية رحلاتها.
استدعاء الاحتياط يضغط على الاقتصاد
ولكن الحرب سيكون لها آثار استراتيجية أكبر على الاقتصاد الإسرائيلي، فبالإضافة للتكلفة المادية لآلة الحرب الإسرائيلية، التي تمثّل نزيفًا يمكن تعويضه جزئيًا عبر المساعدات الأمريكية، فإن واحدًا من أكبر الأعباء الاقتصادية للحرب على إسرائيل هو استدعاء الاحتياط.
استدعت إسرائيل نحو 360 ألف جندي احتياطي وهو أكبر استدعاء في تاريخها، ويشكّل رقمًا كبيرًا في بلد عدد سكانه أقل من عشرة ملايين نسمة، ويمثل أقل قليلًا من 5% من إجمالي العمالة بالبلاد.
وتُمثّل أجور جنود الاحتياط عبئًا على ميزانية الحكومة، ولكنها لا تكفي في الأغلب لتعويض الجنود عن أجورهم الأصلية، كما أنّ خروجهم من سوق العمل لفترة طويلة سيكون له آثار اقتصادية طويلة الأمد.
كنز إسرائيل الأكبر مهدّد بالزوال
ولكن التأثير الأبرز أنّ كثيرًا من جنود الاحتياط يعملون في شركات التكنولوجيا العالمية، وأنواع أخرى من الشركات التي تقود الاقتصاد الإسرائيلي.
كانت شركات التكنولوجيا هي بمثابة ذهب كاليفورنيا المعاصر لإسرائيل، وشكّلت قاطرة الاقتصاد، ولكن تواجه تحديات منذ ما قبل الحرب، أبرزها الصراع السياسي حول التعديلات القضائية بين معسكر اليمين المتطرّف بقيادة بنيامين نتنياهو والعلمانيين، وحذر قادة شركات التكنولوجيا من أنّ هذه الأزمة ستؤدي إلى هجرة لرؤوس الأموال والكفاءات العاملة في هذا المجال، خاصة أنّ هناك إغراءات كثيرة تُقدّم للمبرمجين الإسرائيليين من قبل الدول الغربية، إضافة إلى أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة في إسرائيل.
تمثّل شركات التكنولوجيا القيمة المضافة الأساسية لاقتصاد إسرائيل، وفقدان هذا الكنز سيكون له تأثير كبير على مستقبلها
وسوف تؤدي تداعيات الحرب بما في ذلك استدعاء الاحتياط، والتوتر الأمني جراء تعرّض المدن الإسرائيلية لقصف الصواريخ، إلى زعزعة أوضاع هذه الشركات، علمًا أنّ صناعة التكنولوجيا صناعة يسهل عليها الهجرة لأنها ليس لديها أصول ثابتة كبيرة.
لا يجب الاستهانة بتأثير هذا الاحتمال، إذ تُمثّل شركات التكنولوجيا القيمة المضافة الأساسية لاقتصاد إسرائيل، الدولة المحدودة المساحة والموارد التي بات اقتصادها غير تنافسي في الصناعات التقليدية، وفقدان هذا الكنز سيكون له تأثير كبير على مستقبلها ليس فقط الاقتصادي بل على قدراتها العسكرية.
تصنيف إسرائيل الائتماني مهدّد
كما قد يؤدي المزيد من تصعيد الصراع إلى خفض تصنيف الديون السيادية لإسرائيل، حسبما حذرت وكالات التصنيف الائتماني العالمية مثل "فيتش" للتصنيف الائتماني و"موديز" لخدمات المستثمرين و"ستاندرد آند بورز" في الأيام الأخيرة، وهذا يعني ارتفاع تكلفة الديون.
وقد خفضت وكالة "ستاندرد آند بورز" بالفعل توقعاتها الائتمانية لإسرائيل إلى سلبية، من مستقرة، مشيرةً إلى خطر احتمال اتساع نطاق الصراع، مع تأثير أكثر وضوحًا على الاقتصاد. وقالت الوكالة: "التوقعات السلبية تعكس خطر أن تنتشر الحرب على نطاق أوسع أو تؤثر على المقاييس الائتمانية لإسرائيل بشكل أكثر سلبية مما نتوقع".
.. وكذلك طموحات منافسة قناة السويس
قد تقلّل المساعدات الأمريكية من وطأة الحرب الاقتصادية حيث طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن 14 مليار دولار من الكونغرس لدعم إسرائيل، ولكنها لن تغيّر اتجاه الاقتصاد الإسرائيلي نحو الانحدار بفعل الحرب.
إسرائيل حاليًا، مركز عالمي للتكنولوجيا وتريد التحوّل أيضًا لمركز عالمي للنقل، بما في ذلك حديث عن مساعيها لمنافسة قناة السويس.
وسبق أن سعى الإسرائيليون لتحقيق هذا الحلم بالتعاون مع الصينيين، حيث منحوا إدارة ميناء حيفا لشركات صينية مما أغضب الولايات المتحدة، التي أوقفت الصفقة وتم منحها لشركة هندية.
إذ تسعى واشنطن لدفع إسرائيل للتعاون مع نيودلهي كبديل، ويُعتقد أنّ الممر الهندي المقترح الذي طُرح في قمة العشرين الأخيرة بنيودلهي برعاية أمريكية أحد المشروعات الرئيسية بالنسبة لإسرائيل، ويُعتقد أنه سيتمخض عنه سلسلة من الطرق البرية والسككية والموانئ للنقل من الهند إلى دول الخليج ثم الأردن إلى إسرائيل ومنها لأوروبا.
"طوفان الأقصى" حطّم معادلة الرخاء والاحتلال
نتنياهو استمد نجاحه في البقاء في الحكم كأطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل من تقديمه لنفسه على أنه الرجل الذي حقّق الرخاء للإسرائيليين (نصيب الفرد من الناتج المحلي بإسرائيل أعلى من ألمانيا) مع الأمن، بالإضافة إلى الاستيلاء على أكبر قدر من الأرض الفلسطينية، وخوض حروب محدودة.
الاحتلال سيكون له ثمن باهظ وسيكون هذا الثمن هو أكبر عامل ضغط على الإسرائيليين لإنهاء العدوان
ولكن "طوفان الأقصى" حطّم هذه المعادلة، وبات لزامًا التحوّل لاقتصاد حرب، وهذا ما سيفسد الشق الأهم من صفقة نتنياهو مع الإسرائيليين أي الشق الاقتصادي، بما في ذلك تهديد إرثه الأكبر في جعل إسرائيل مركزًا عالميًا للتكنولوجيا وحلمه في أن تتحوّل مركزًا للنقل واللوجستيات.
إذ لا يتوقع أن تأتي شركات التكنولوجيا أو النقل أو الطاقة لبلد تتعرّض كبرى مدنه، وقلبه الاقتصادي "تل أبيب"، لوابل من الصواريخ حتى لو يتم إسقاط أغلبها بواسطة القبة الحديدية.
يريد الإسرائيليون تحقيق المستحيل، احتلال أراضي الغير وأن يكونوا مركزًا عالميًا للسياحة والنقل والتكنولوجيا، ولكن "طوفان الأقصى" أثبت استحالة ذلك وأنّ الاحتلال سيكون له ثمن باهظ. وعلى الأرجح، سيكون هذا الثمن هو أكبر عامل ضغط على الإسرائيليين لإنهاء العدوان والقبول بوقف إطلاق النار، حتى ولو بعد حين.
(خاص "عروبة 22")