لا حاجة إلى تأصيل تعريف الثقافة كمفهوم تفاعل في مراحل التطور البشري. فالثقافة، كما اللغة، هي كائن حيّ، وهي المخزون، ومستودع قيم المجتمع وأعرافه، وأحكامه ومعاييره، وسلوكياته السائدة.
قضية الأمن الفكري مرتبطة جذريًا بالتحوّلات السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، الإعلامية
كل واقع سياسي، أو اجتماعي، أو أعلامي، هو في جذره قيمة ثقافية، وتطوّر معاصر، ونجاحات تنموية. فسؤال التنمية هو سؤال الثقافة. كما هو سؤال الديمقراطية في المجتمعات الحديثة والمعاصرة.
الثقافة هي أكثر من خطاب وجداني، وليست أيضًا خطاب عقل فقط "حدّي"، لا ترى إلى نقاط الضعف، أو نقاط القوة. لذلك سؤال المستقبل في العالم العربي، هو "أيّ ثقافة نريد أن نبني"، لأنّ تحدّي الحداثة هو في التنمية (مجمل الحراك المجتمعي). فقضية الأمن الفكري مرتبطة جذريًا بالتحوّلات السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، الإعلامية. هي تجريب إما يقود إلى الفشل والاختلافات والانقسامات الإثنية والطائفية، وإما يؤسّس إلى مجتمعات متطورة. ليس هناك من عجز في فكر "النخب العربية"، عن تحديد ما يجب فعله.
لكن العجز في عدم فعالية أساليب التنفيذ وآلياتها (الاستراتيجية). كأن يكون العرب في مرحلة انتقالية. كل عاصمة عربية اليوم مليئة بالأسئلة والهواجس، تحاول أن تتجاوز نفسها، ودائمًا على أهبة التحوّل، وأحيانًا على أهبة المجهول، بين اليقين والحذر، بين الدمار والعمران، بين حرّيات نسبية تعززها تطلّعات مؤثّرة، وبين الحذر في المواقع والثوابت، والتقاليد والأعراف، والايديولوجيات والمقاربات المختلفة، والكتل التاريخية والبشرية المغلقة، وعلى اختلافية في مجمل المواقع.
استغرقت حركات التنوير وأوجه النهضة في أوروبا والعالم المئات من السنين لبلورة أنظمة حديثة
كل دولة عربية تبني رؤيتها للعالم، ليس على أساس رؤية من ضمن رؤى، أو من ضمن مشاريع مشتركة، تصبّ في مجرى الحداثة التعدّدية، التي تتنفّس في مسائل الحياة، المجتمع، الشباب، المرأة، الاختلاط الديموغرافي، المجتمع المفتوح، الانخراط في ثقافة الابتكار، من دون أن يؤدي ذلك إلى التنافر بين الثوابت القائمة والنزعات الاستدلالية على عالم جديد، بشكل سلس وطبيعي.
استغرقت حركات التنوير وأوجه النهضة في أوروبا والعالم (متراجعة)، المئات من السنين لبلورة أنظمة حديثة وطرائق تعبير، تقول الأفكار المعاصرة بلغات تطول إلى لغة فنية، شعرية، روائية، تاريخية، مسرحية، سينمائية، أو رسائل صحافية وإعلامية. قد يكون العرب بحاجة إلى نهضة ثالثة، لتباشر مهامها، التي افتتحها رجالات الحداثة في مصر ولبنان، وامتدت لتشمل دمشق، بغداد، فاس، مراكش.. من جبران خليل جبران إلى أمين الريحاني، توفيق يوسف عواد...، وقبلهم من أمثال البساتنة / اليازجيين / الزيدانيين / سلام الكوكبي/ فرح انطون/ شبلي شميّل/ أحمد شوقي/عباس محمود العقاد/ طه حسين/ رفاعة الطهطاوي/ خليل مطران / حافظ ابراهيم / توفيق الحكيم، وآخرين، نموذجًا من التحرّر، وخروجًا للمثقفين النخب، في تداخل قريب ومباشر مع مجتمعاتهم، من دون أن يكون منطق هؤلاء هو منطق الأنظمة نفسها.
شرط "التقدّم" أن نكون مستعدين... وإلا كل شيء معرّض للخطر
من الحكمة القول إنّ ذلك ليس من الأمور السهلة، هناك مسيرة طويلة وحصينة من تاريخ الثقافة العربية والعلوم بين القرنين الثالث والتاسع، في علوم الطبيعة والفلك، والكيمياء والطب، والفلسفة، والرياضيات، والمنطق والأدب وعلم الكلام، في كل القضايا المتعلقة بالفكر التاريخي، ودراسة الانسان والمجتمع، وصعود الممالك والأمم، والثقافات وانحطاطها، ورفع مستوى النقد والتحقق، والعقود والموجبات والمحاورات والأخبار (المسعودي /الشافعي /النظام المعتزلي).
الثقافة هي الحداثة، ولم يصاحبها تآكل في بنيّة الدولة – الأمة، والتجزؤ، وصعود اللامساواة بين البلدان. فهي تستند أيضًا إلى الاستعدادات والتوجهات الأخلاقية، وإلى مرجعيات هوياتية توحي بوجود بشري حقيقي، وما ثقافة المواطنة إلا رسم حدود العلاقات الإنسانية.
شرط فكرة التقدّم أن نكون مستعدين لأن نضطلع بمسؤولية، وإلا كل شيء معرّض للخطر بالنسبة للحكومات والمجتمع، والفاعل الآخر "الاقتصاد الرابع"، هو التعليم لتحرير الموارد البشرية والمادية، ورهان ديمقراطي حقيقي، وفي قلبه تتشكل المجتمعات المدنية، وثورة التكنولوجيات كوسيلة نجاح مهمة تربط مع العقد الثقافي، الذي يشجع التعددية.
التآلف الثقافي لا يعني الامتثال، مما يشجع على ظهور ثقافة السلام، التي تقوم على الحط من قيمة العنف واحترام الآخر، فالذات الثقافية لا تنتج الذات... بل تنتج الآخر.
(خاص "عروبة 22")