لم يكن العرب عالةً على الجهود الإنسانية في التقدّم والتحضّر الثقافي بمختلف أنواعه، بل كانوا مُشاركين ومُنتجين للمعرفة، وأيضًا أداةَ وصلٍ فاعلةً بين الحضارات القديمة والحديثة في الشرق والغرب، ولولا العرب لظلَّ البشر حتى يومنا هذا يعيشون في العصور المظلمة.
معايير الحضور والوجود والهوية أضحت تتبلور وتُقاس من خلال المشاركة والاستخدام الأمثل للمنتجات الذكية
غير أنَّ هذا المجد، ربّما لا وزنَ له إذا ما ظلَّ العرب على ما هُم عليه في هذا الزمان، في آخر الركب، وقليلًا ما يُشار إليهم بالبنان في منجزٍ حضاريّ ما. ولولا بعضُ الجهود العربية المحلّية المحدودة جدًّا، وبعضُ عقولنا المهاجرة إلى ديار الغرب، والتي ما فتئت تُثبت وجودَها وأصالتها العقلية وقدراتها الفائقة على التميّز والإبداع، لربّما لا يُلتَفتُ إلينا أبدًا في عالَمٍ يتقدّم ويتسابق في شتّى مجالات الابتكار العلمي والتكنولوجي، خصوصًا الرقميّات الذكية اللصيقة بحياتنا اليومية.
إنَّ العرب اليوم أمام مسؤوليةٍ حضاريةٍ ضاغطة، تجاه ثقافتهم، وحضورهم الذاتي؛ ذلك أنّ معايير الحضور والوجود والهوية أضحت تتبلور وتُقاس من خلال المشاركة والاستخدام الأمثل للمنتجات الذكية، كيف تُنتَج وتُطوَّر؟ وفي أيّ بيئةٍ ثقافية؟ ومن خلال أيّ بنيةٍ تقنية؟ وكيف تُستخدم من حيثُ سياساتها واستراتيجياتها ومخططاتها وإداراتها وتنفيذاتها المُتنوّعة؟ إلى أيّ مدى تتناسبُ هذه المنجزاتُ مع المقاييس العالمية وأنظمةِ المعايير الدوليّة المُعتمَدة؟.
في كلّ هذه الأمور، بات الذكاءُ الاصطناعيّ يلعب الدور الأكبر! فهو النائب العمليّ الأوفرُ حظًًّا في محاكاةِ الذكاء البشريّ إلى حدٍّ بعيد. ولا تبدو مخاوف حقيقية كبيرة من استخدام الذكاء الاصطناعي على المستوى العالمي، إذ هناك انطباعٌ عام أنّ نسبة استخدام الذكاء الاصطناعي تجاوزت 75% في العيّنة العالمية.
العرب أمام أعباء كثيرة لصون ثقافتهم في سياق الذكاء الاصطناعي وإبرازها في أرقى مُكتسباتها القديمة والحديثة
وفي عالمنا العربي، يتصدّر بعض الدول المشهد في استخدام الأدوات الذكية، مثلًا وليس حصرًا؛ تُفيد بعض الإحصاءات أنّه بنهاية عام 2024، بلغ عدد مستخدِمي أدوات الذّكاء الاصطناعي في دول "مجلس التعاون الخليجي" 3.1 مليون مستخدم، بينما في 2023 بلغ عددهم 2.51 مليون مستخدم (NU-Q Views)، أي بزيادة 0.59 مليون مستخدم. وأنَّ حوالى 88% من مديري الشركات الخليجية قد اعتمدوا تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ما يشير إلى تضمينها استخدام نماذج اللغة الكبيرة (استبيان لشبكة PwC - 2024). إلى جانب جهودٍ ضخمةٍ تُبذل من قبل كلٍّ من الإمارات والسعودية وقطر وغيرها، لتطوير نماذج ذكية لنَمذجة اللغتَيْن العربية والإنجليزية، وفهم اللهجات العربية، ما يعني تزايد الاهتمام والطلب الفعلي على نماذج ذكيةٍ مخصّصةٍ للغة العربية.
أمام العرب اليوم أعباء كثيرة لصون الثقافة العربية في سياق الذكاء الاصطناعي، وإبرازها في أرقى مُكتسباتها القديمة والحديثة، الأمر الذي يمكن النظرُ إليه من خلال ثلاثة واجباتٍ أو أدوارٍ رئيسيّة، تنوطُ بها ممارساتُ الذكاء الاصطناعي، خصوصًا نماذج اللغة الكبيرة في العالم العربي.
أولًا - المسؤولية الثقافية الشاملة: تنطوي على ضرورة التزام العرب بالحفاظ على ثقافتهم والتفاعل معها بوعيٍ وجهدٍ لازمَيْن لتقديمها إلى الحضارة المعاصِرة بثرائها وإمكانياتها الفائقة، بما يشمل احترام الثقافات الأخرى والتواصل الإيجابي معها، وتتمثّل هذه المسؤولية في السياسات والمخططات والتعليم والبحث العلمي والمنابر الثقافية والإعلام...
يمكن للعرب أن يعزّزوا وضعَهم الزمانيّ والمكانيّ فلا يبقى يهدِّدُهم الزحف التقنيّ والمعرفة الرقمية الغربية المُتحيّزة
ثانيًا - مراجعة التراث وتقييمه: لعلَّ هذا الدور يبدأ ممّا انتهى إليه المفكّرون العرب المعاصرون في مراجعتهم للتراث وتقييمهم له؛ خصوصًا تشخيصهم للمشكلات المزمنة في العقل العربي، التي تتمحور حول ما يُسمّيه بعض المفكّرين بالهزيمة الداخلية للعقل العربي. وهذا يعني ضرورة التوجّه نحو الارتقاء بالعقل الجمعي العربي، وترسيخ سُبُل التفكير النقدي، والتفكير الإبداعي، والسلوك الجماعي الإيجابي، وتعزير مظاهر العلم والتكنولوجيا التنموية.
ثالثًا - الرّقمنة المُنَظَّمة: وهي الجهود البرمجيّة المُقنّنة والمخطّط لها بعناية، بما يؤدّي إلى التحوّل العملي من مجتمعاتٍ تعتمد في ثقافتها الموروثة والراهنة على بطون الكُتُب والمخطوطات والتمثّلات الشفاهيّة، إلى مجتمعاتٍ تحفظ ثقافتها وتُفعّلها من خلال تكنولوجيات العصر؛ أنظمة التخزين الرقميّة، وبرمجيّات التواصل الشبكي، وإدارة النُّظُم الحاسوبيّة المتنوّعة. إنّها جهود التحوّل الرقمي بأنواعها، والتي ترتكز حاليًّا بشكلٍ كبيرٍ على منظومات الذكاء الاصطناعي.
من خلال تحمُّل المسؤولية والقيام بالواجبات المُختلفة بشأنها، يمكن للعرب أن يعزّزوا وضعَهم الزمانيّ والمكانيّ في آن. فلا يبقى يهدِّدُهم خطرُ الزحفِ التقنيّ المتقدّم والمعرفة الرقمية الغربية المُتحيّزة في الكثير من مظاهرها. الأمر لا يُستهانُ به أبدًا، فالنماذج الذكية بصورةٍ أو بأخرى تُهدّدُ الثقافةَ العربية، فهي منتَجاتٌ غربيةٌ تُنَمْذَجُ في ظلّ بيئات الإنتاج والتدريب الغربية؛ لغةً وثقافةً وسياسةً وأنماطَ تفكيرٍ وسلوك...
تهديد يطال اللغة العربية والمفاهيم القيمية والدينية والهويّة الثقافيّة والمحتوى العربي الرقميّ
يشهدُ هنا "شاهدٌ من أهلها"، إذ تشير تقديرات تحليليّة (نوعية عامة)، صادرة عن نموذج (ChatGTP)، إلى أنَّ تهديد نماذج اللغة الكبيرة للثقافة العربية قد يتراوح ما بين 60 و80%!...
لا نعتبرُ هذه النسبة تقديرًا علميًّا ثابتًا، ولكنّها تظلّ مؤشّرًا نوعيًّا بحسب مؤشرات متعدّدة من دراسات التحيّز والتمثيل الثقافي في الذكاء الاصطناعي!... إنّه التهديدُ الذي يطالُ اللغة العربية، والمفاهيم القيمية، والدينية، والهويّة الثقافيّة، والمُحتوى العربي الرقميّ... فماذا نحن فاعلون؟!.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")