ويتأكد التوحّد الأمريكي بالممارسات "الاحتلالية" الإسرائيلية يومًا بعد يوم، ولا تخفي الإدارة الأمريكية هذا التوحّد، فلقد دأب الرئيس بايدن على تأكيده، ولعلّ تصريحه، الذي كرّره مرّات عديدة في مناسبات متعدّدة، الذي يُعلن فيه بأنه "ليس من المطلوب أن تكون يهوديًا حتى تكون صهيونيًا.. ومن ثم فأنا صهيوني"؛ You don’t have to be a Jew to be a Zionist…I'm a Zionist؛ يوضح طبيعة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية التي - حسب إحدى الدراسات - "متشابكة ومعقّدة، ولا تقف عند حد تقديم الدعم المادي والتسليحي فقط، كما تتعدى حدود توفير الغطاء السياسي والحماية الدولية". ولا يتم ذلك بسبب دور اللوبي الصهيوني فقط، بل نتيجة الحضور اليهودي في نسيج المجتمع الأمريكي والحضور الفاعل في المراكز المالية والاقتصادية والسياسية، ما أتاح لعب أدوار رئيسية في منظومة المصالح الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية.
ومن ثم استطاع الكيان الاستيطاني الإسرائيلي، الذي تأسّس برعاية استعمارية بريطانية ليكون امتدادًا للمركز الإمبريالي الأوروبي مطلع القرن العشرين، أن يستمرّ في لعب هذا الدور لصالح الولايات المتحدة الأمريكية من أجل ضمان هيمنته على المنطقة خاصة بعد خروج الاستعمار التاريخي/التقليدي منه من جهة، ومواجهة المد الاستقلالي/القومي المتنامي بعد الحرب العالمية الثانية والمد الراديكالي، شيوعيًا كان (في وقت ما) أو دينيًا، من جهة ثانية، وضمان تدفّق الثروات والموارد الطبيعية إلى المركز الإمبريالي من جهة ثالثة، وذلك بممارسة العنف والتدمير والعنصرية والتمييز والعدوان، والتي لا يتورّع الأمريكي أن يعلن تضامنه مع إسرائيل الاستيطانية في ممارستها متوحّدًا معها.
في هذا السياق، تمّت هندسة الكيان الاستيطاني الإسرائيلي ليكون "ثكنة"، و"مختبر حرب" لضمان إنجاز العملية الاحتكارية.
شراكة مفتوحة بين "مختبر الحرب" في "الثكنة الطرف" الإسرائيلية وبين "مختبر الحرب" في "الثكنة المركز" الأميركية
ثكنة؛ "آمنة لآلة عسكرية" وعقل عسكري، تكون قادرة على ما يلي؛ أولًا: ردع محيطها في أي وقت، وثانيًا: التوسّع الدائم، وثالثًا: حق تحديد الحدود بالدعاوى الكاذبة وبغض النظر عن المواثيق والقرارات الدولية وحقوق الآخرين التاريخية، رابعًا: تنفيذ ما يتطلّبه تحديد الحدود والردع من: تهجير وتسفير وتطهير، وإبادة، وتهويد تام.
"مختبر حرب"؛ وهو تعبير صكه المؤرّخ والصحافي الفرنسي دومينيك فيدال، لينبّهنا إلى أنّ إسرائيل كي تضمن استدامة قدراتها على اعتبار أنها "ثكنة" استيطانية فإنها قد عملت على أن تؤسّس "مختبرًا للحرب"، أي ألا تكتفي الثكنة بتلقي الدعم العسكري لممارسة الردع والتوسّع وتحديد الحدود بما يتطلّبه ذلك من تطهير، وإبادة، وتهجير. وإنما على الثكنة أن تكون مبتكرة ومصنّعة ومصدّرة للسلاح من جانب. وأن تكون مبادرة في تنفيذ العمليات الحربية لتجريب السلاح والطرق القتالية المختلفة سواء في مواجهة عسكريين نظاميين أو مقاومين أو مدنيين من جانب ثانٍ. والأهم تأمين الشراكة المستمرة والممتدة والمفتوحة بين "مختبر الحرب" في "الثكنة الطرف": الاستيطانية الإسرائيلية؛ وبين "مختبر الحرب" في "الثكنة المركز" في الولايات المتحدة الأمريكية للاطلاع والتعاون والعمل المشترك لكل ما هو جديد في الآلة العسكرية من جانب ثالث.
سلام النخب الثروية لن يحدث إلا في سياق الشبكات النخبوية السلامية ولن يمتد إلى الشعوب
ويقول فيدال إنّ "واقع العيش في حالة حرب شبه دائمة" لدولة الاحتلال الإسرائيلية قد "أتاح لها أن تراكم كفاءة استثنائية في ميدان التسلّح" ما دفعها إلى أن تشعل حروبًا متواصلة على غزّة في 2002، و2008 و2012، و2014، و2019، و2022، و2023، وقد أتاح "مختبر الحرب" الإسرائيلي الاستيطاني أن يجعلها من بين القمم الخمس من قمم المصدّرين للعتاد العسكري. إضافة إلى نسج علاقات غاية في التعقيد مع كثير من الدول مثل الهند، إضافة لدول أوروبا الغربية. ومن خلال "مختبر الحرب" أتيح لإسرائيل دخول السوق الأوروبية والاستفادة بامتيازات خاصة لم تحظَ بها دول أوروبية. ويرصد بعض المراقبين كيف اكتسبت إسرائيل حضورًا مميّزًا ودائمًا في لجان الأمن والسياسة الأوروبيين في العقد الأخير. كذلك في مراكز الاقتصاد والمال الأوروبية ذات الشأن، وهو ما يفسّر هذا التأييد الفج من قبل أحزاب اليمين الأوروبية لإسرائيل كي تمارس الحق في الدفاع عن نفسها ضد من تحتلّهم وتبيدهم.
الخلاصة، من خلال تعاظم دور إسرائيل "الثكنة ـــ المختبر"؛ تواصل احتكار الثروات من قبل الغرب: الأمريكي والأوروبي؛ وكان لا بد من أجل تعاظم الدور وتواصل العملية الاحتكارية أن يتم تغييب القضية الفلسطينية، والاعتقاد بأنّ الانخراط في سلام النخب الثروية سوف يحقّق الرخاء والاستقرار للمنطقة، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، إذا حدث، إلا في سياق الشبكات النخبوية السلامية ولن يمتد إلى الشعوب.
(خاص "عروبة 22")