في ذلك الخطاب قال "شواب" ما يلي: "... يعيش عالم اليوم ما بات يُعرف "بالثورة الصناعية الرابعة" (بعد الثورات التاريخية الثلاث التي عرفتها البشرية: البخار، والطاقة الكهربية، والإلكترونيات). عنوان هذه الثورة وموضوعها "التقنيات الدقيقة الحديثة"؛ حيث ستسود "الأتمتة" (Automation) تدريجيًا، كلّ القطاعات الاقتصادية: الصناعية، والزراعية، والتقنية، والمعرفية. وعلى الرَّغم من أنّ أي إيجابيّات سوف تصبّ في تطوير تلك القطاعات، إلّا أنّ الأتمتة، والتي تعني الاعتماد على التقنيات الرقمية وذروتها الذكاء الاصطناعي، سوف تؤدّي إلى تفاقُم ظاهرة البطالة".
وتوقّعت الدراسات أنّه بحلول 2030، سوف يتمّ الاستغناء في دولةٍ مثل الولايات المتحدة الأميركية - دولة المركز الرأسمالي - عمّا يقرب من 50% من العمالة الحاليّة.
"الذكاء الاصطناعي التوليدي" لم يعُد مجرّد أداة مساعدة بل أصبح في الكثير من القطاعات بديلًا فعّالًا للعمالة البشرية
وما تمّ التحذير منه مُبكّرًا، أكّدته تقديرات مؤسّسات مالية كبرى، من بينها بنك "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs)، الذي أشار في تقريره الدوري لسنة 2023 إلى أنّ ما يصل إلى ثُلْثَي الوظائف في الولايات المتحدة معرّضة لخطر الاستغناء عنها - بدرجةٍ أو بأخرى - من جرّاء تفعيل الأتمتة واستخدام الذكاء الاصطناعي.
في هذا الإطار، يشهد سوق العمل الأميركية إرهاصات تحوّل بنيوي غير مسبوق، بفعل القفزة "الطفرية" في تقنيات "الذكاء الاصطناعي التوليدي" (Generative AI)، القادر على إنتاج النصوص والصور والبرمجيّات وتحليل البيانات المُعقّدة بسرعةٍ تضاهي - أو تتفوّق على - البشر. هذا التطوّر لم يعُد مجرّد أداة مساعدة، بل أصبح في الكثير من القطاعات بديلًا فعّالًا للعمالة البشرية، الأمر الذي بات يُثير قلقًا متزايدًا بشأن مستقبل الوظائف.
وبالفعل، أفادت التقارير الاقتصادية الأميركية، الصادرة في عددٍ من الدوريات المعتبرة - وفي مقدّمتها "وول ستريت جورنال" - مطلع أغسطس/آب الجاري، إضافةً إلى التقرير الشهري للتوظيف، بأنّ عدد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة قد ناهز عشرة ملايين مواطن مع نهاية شهر يوليو/تموز الماضي. ويُعَدّ هذا العدد من العاطلين - الذين يعانون التعطّل لمدّةٍ ممتدّة - هو الأعلى منذ سنة 2017.
إضافةً إلى ما سبق، فإنّ الذاكرة لا تنسى ما بدأت تمارسه شركات تكنولوجيا وإعلام كبرى أعلنت منذ 2022 عن تسريحاتٍ جماعيةٍ، مُبرّرةً ذلك بإعادة توزيع الموارد نحو مشاريع الذكاء الاصطناعي. كما تُشير بيانات وزارة العمل الأميركية إلى تباطؤ نموّ الوظائف في بعض المهن التي يمكن أتمتتها بسهولة، مقابل زيادة الطلب على وظائف مُتخصّصة في تطوير وإدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي.
الجشع التاريخي الذي كشف عنه ماركس تضاعف إلى حدّ "تضخّم الجشع" والشراهة في تعظيم الربح
دفعت التحوّلات الجارية في سوق العمل إلى فتح نقاشاتٍ موسّعةٍ تتّسم بالتحليلات المُعمّقة حول مستقبل الاقتصاد الأميركي - وبالتبعيّة مستقبل الاقتصاد العالمي - وما بات يتعرّض له من إشكاليّات اقتصادية وتداعيات مجتمعيّة في ضوء الإحلال المُنظّم، الذي يسير على قدمٍ وساق، للذكاء الاصطناعي محلّ البشر، بخاصة في قطاع التكنولوجيا. وقد أدّت هذه العملية تحديدًا إلى استعادة مقولات العالم الموسوعي "كارل ماركس" (1818 ـــ 1883) حول البطالة فيما أطلق عليه: "الجيش الاحتياطي من العمالة العاطلة" (The Reserve Army)؛ وكيف أنها حالة إشكاليّة تنتج عن الجشع الرأسمالي التاريخي الذي يسلكه الرأسماليون من أجل "مُراكَمة" رأس المال. بَيْدَ أنّ الجشع التاريخي الذي كشف عنه "ماركس" قد تضاعف إلى الحدّ الذي وصفه تقرير "أوكسفام" لسنة 2023 "بتضخّم الجشع" (greedflation)؛ أو الشراهة في تعظيم الربح؛ ما يعني، يقينًا، أن تدفع دورات التجدّد التكنولوجية الرقميّة، وذروته حتّى الآن، الذكاء الاصطناعي، ليس فقط إلى تقليل الطلب على العمالة بمستوياتها "الياقاتية" المختلفة (نسبةً إلى "ياقة" والتي تُستخدم لوصف الطبقات المختلفة؛ طبقة الياقات الزرقاء، وطبقة الياقات البيضاء، وطبقة الياقات الرقمية (Digital – collar workers)، أو الذهبية حسب المصطلح الذي روّجته شركة IBM...)، بل إلى الحلول كلّيا محلّ البشر على اختلاف "ياقاتهم / طبقاتهم".
وبعد، ففي ضوء التوسّع المُتضاعف تضاعفًا "طفريًا" في استخدام الذكاء الاصطناعي، تجدّد الحديث حول أطروحات "ماركس" التي أبدعها في عمله التاريخي الكبير: "رأس المال" (الفصل الثالث والعشرون من المُجلّد الأول ترجمة فالح عبد الجبّار) فيما يتعلق بما أطلق عليه: "مَيْلُ رأس المال لزيادة التركيب العضوي"؛ حيث يستثمر رأس المال في وسائل الإنتاج لرفع الإنتاجية؛ فيدفع إلى إحلال الآلة محلّ العامل بهدف تقليل التكلفة وزيادة فائض القيمة. ومن ثمّ يفرض الجيش العاطل ضغطًا على الذين لا يزالون في الخدمة في عدم ارتفاع الأجور ويحافظ على ثباتها بما يضمن تعظيم الربحيّة. إذ كلّ تراكم لرأس المال، هو في الوقت نفسِه، تراكم لما يُسمّى بالجيش العاطل.
نحن أمام تحدٍ تاريخي مُركّب سيعيد تشكيل البنية الطبقية التي تقوم على ملكية المعلومات والبيانات والنماذج
وما الذكاء الاصطناعي إلّا امتدادٌ لهذا التوجه. أخذًا في الاعتبار قدرة تلك التقنية الذكية الاصطناعية على إنجاز ما هو أكثر من تسريع العملية الإنتاجية، وضغط الإنفاق، إذ سوف يكون من مزايا التقنيات الرقمية، الإتقان الشديد والتطوّر الدائم. والأخطر هو أن التطور "الطفري" للذكاء الاصطناعي قد يؤدّي إلى الاستغناء التام عن العمالة في وقتٍ من الأوقات، وهو خطر لم يكن حالًا في زمن ماركس.
خلاصة القول، نحن أمام تحدٍ تاريخي مُركّب؛ فالبطالة الأميركية ستكون نموذجًا يتمدّد خارجها، ومن ثم سوف تكون التكلفة المجتمعيّة مرتفعةً ارتفاعًا فائقًا. إذ سيعيد تشكيل البنية الطبقية التي تقوم على ملكية المعلومات/البيانات/النماذج...، لا ملكية الوسائل المادية التاريخية، فيما بات يُعرف في الأدبيات المعاصرة، بـ"الإقطاع الرقمي" حسب الاقتصادي اليوناني الألمعي ووزير مالية اليونان السابق "يانيس فاروفاكيس" (Yánis Varoufákis)... لقد استنفر الذكاء الاصطناعي الذاكرة الماركسية وحفّز مُفكّريها المعاصِرين على ضرورة تشريح المستجدّات التي طرأت على البنية الطبقية التي تنزع لأن تكون رقميّة بالتمام وما سيتداعى عن ذلك، وكيف تكون الحماية الاجتماعية اللازمة.
(خاص "عروبة 22")