الحقيقة أنّ حرب غزّة وحجم الانحياز السياسي والإعلامي الغربي لإسرائيل جعلا كثيرين يطرحون السؤال حول جدوى الديمقراطية، وهل هي مجرّد شعارات تتشدّق بها الدول الغربية وعند التطبيق يتّضح حجم الانحياز وسياسة "الكيل بمكيالين" وعدم احترام القوانين وقرارات الأمم المتحدة التي يُفترض وفق بديهيات أي نظام ديمقراطي احترامها.
والحقيقة أنّ تساؤل البعض المشروع: هل النظم الغربية ودولة إسرائيل نفسها يمكن وصفها بالدول الديمقراطية؟ في ظل تواطؤ الأولى مع جرائم الثانية، وفي ظل تفضيل نظم ديمقراطية أن تبرّر جرائم إسرائيل حتى لو خالفت أبسط قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان بدلًا من محاسبتها وفق قواعد أي قانون دولي وإنساني.
وقد بنى البعض على هذا التساؤل إجابة سريعة وسطحية، بأنّ هذا دليل على فشل الديمقراطية وعدم جدواها لعالمنا العربي، خاصة أنّ النظم غير الديمقراطية مثل الصين وروسيا أدانت العدوان الإسرائيلي على غزة، وأصبح سؤال جدوى الديمقراطية ودولة القانون في قلب النقاش حول حرب غزّة.
رفض السياسات الغربية يرجع لأنها خانت مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وليس لأنّ هذه القيم سيّئة يجب التخلي عنها
والحقيقة أنّ السؤال الذي يجب مناقشته في العالم العربي، يجب أن لا يكون حول جدوى الديمقراطية إنما يجب أن يأخذ شقّين؛ الأول: أنّ مبادئ دولة القانون والديمقراطية هي مبادئ عالمية، حتى لو كان الغرب وضع نظمه الحديثة على أساسها، إلا أنها تظلّ مبادئ يمكن أن تتبنّاها كل الدول والمجتمعات والثقافات، وليست حكرًا على الدول الغربية، كما جرى مع بلدان كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، والتي اختارت دول عدة منها أن تقطع علاقتها مع إسرائيل أو تسحب سفراءها من هناك، وهو ما لم تفعله بعض البلاد العربية، ولم يعنِ تبنيها للنظام الديمقراطي أن تكون مثل البلاد الغربية وتنحاز بشكل مطلق لإسرائيل، بل كانت على العكس داعمة للحقوق الفلسطينية.
والحقيقية أنه يجب أن لا يربط المثقفون في العالم العربي قضية الانحياز الغربي الفج لجرائم الاحتلال الإسرائيلي بجدوى أو جدارة النظام الديمقراطي ودولة القانون، إنما بمثالب النموذج الغربي بكل ما يمثله من تاريخ استعماري وليس قيم الديمقراطية.
إن رفض السياسات الغربية يرجع لأنها خانت مبادئ الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان وليس لأنّ هذه القيم سيّئة يجب التخلي عنها، بل أن وجود هذه القيم كقاعدة للحكم بين الأوروبيين سمح لمئات الآلاف منهم أن يتظاهروا تضامنًا مع أهل غزّة وهو ما حدث في عواصم محدودة في العالم العربي، وتحديدًا في الرباط.
إنّ تظاهر 800 ألف شخص في مظاهرة لندن رفضًا للاحتلال الإسرائيلي وتضامنًا مع أهل غزّة هو حدث تاريخي بكل معنى الكلمة، بل إنّ مشاركة بعض رجال الشرطة المواطنين في هذه التظاهرات هو أيضًا حدث استثنائي وغير متكرّر في العالم كلّه، ولولا النظام الديمقراطي العريق في بريطانيا لما سُمح لأصوات الضمير أن تمثّل أداة ضغط قوية على الحكومة من أجل وقف إطلاق النار.
إنّ ضغوط الرأي العام في النظم الديمقراطية وفي فرنسا هي التي دفعت الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تغيير موقفه وطالب في حوار مع "بي بي سي" بوقف إطلاق النار، صحيح أنه رفض أن يعتبر "إسرائيل مذنبة" إلا أنه فتح الباب أمام مطالبة دول غربية أخرى بوقف إطلاق النار، وهو المطلب الذي ظلّ محلّ رفض أمريكي غربي على مدار شهر كامل.
النظم الديمقراطية ودولة القانون، بما فيها تجارب الديمقراطيات المقيّدة في عالمنا العربي والإسلامي، هي التي أعطت الفرصة لمئات الآلاف من المواطنين المغاربة أن يتظاهروا في مختلف المدن المغربية تضامنًا مع غزّة ورفضًا للتطبيع مع إسرائيل، كما أنّ الكلام القوي الذي تحدّث به أردوغان أمام البرلمان التركي في مواجهة العدوان الإسرائيلي وسحبه لسفير بلده كان يستند على شرعية انتخابات ديمقراطية فاز فيها بحوالى 52% من الأصوات وفي "ظهره" تيار واسع من شعبه يؤيّده، والأمر نفسه ينسحب على إندونسيا وماليزيا.
أما شيلي والبرازيل وبوليفيا التي وصل فيها اليسار إلى السلطة في انتخابات حرّة، فقد سحبوا سفراءهم من تل أبيب لأنهم يمثّلون يسارًا اجتماعيًا حقيقيًا مرتبطًا بالشعوب وجاء بأصوات الناخبين وليس بانقلاب عسكري ولا بشعارات جوفاء لا علاقة لها بالواقع المعاش.
أما جنوب أفريقيا الديمقراطية - غير المكتملة - فقد وصفت وزيرة خارجيتها ما تقوم به إسرائيل بأنه جرائم حرب وسحبت سفيرها من هناك.
ورقة الضغط الأساسية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية أصبحت الآن في يد الرأي العام الشعبي وفي البلاد الديمقراطية، أما النظم العربية غير الديمقراطية فكان حضورها باهتًا ومحدودًا في التأثير على مجريات الحرب في غزّة.
إنّ سياسة "الكيل بمكيالين" والمعايير المزدوجة هي آفات النظم الغربية الكبرى بإرث معظمها الاستعماري، وليس له أي علاقة بقيم ومبادئ الديمقراطية ودولة القانون واحترام حقوق الإنسان، والتي بفضلها صحّحت كثير من هذه النظم من توجّهاتها وراجعت مواقفها في قضايا داخلية وخارجية كثيرة، ومنها ظاهرة الاستعمار والاعتراف بإرادة التحرّر الوطني في كل دول العالم ما عدا فلسطين.
حان الوقت أن نؤسّس نموذجنا لدولة القانون والديمقراطية الذي يكون قادرًا على الوقوف في وجه التحيّزات الغربية
أما الشق الثاني؛ فهو يجب أن يحذو فيه العالم العربي حذو "دول جنوب" كثيرة، وخاصة في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، والتي أسّست نظمها الديمقراطية بالارتباط بخبرتها التاريخية والحضارية وأسّست نماذجها الخاصة التي اختلفت مع النظم الغربية لأنها لم تشاركها تاريخها الاستعماري، وكانت كلّها جزءًا من تجارب التحرّر الوطني في العالم وسمع العالم صوتها لأنها بنت نظم تحترم إرادة شعوبها، فاحترمها العالم حتى لو اختلف مع توجّهاتها.
لا يمكن اعتبار الديمقراطية متواطئة مع العدوان الإسرائيلي على غزّة، إنما كثير من النظم الغربية الديمقراطية هي التي خانت مبادئ الديمقراطية، وحان الوقت أن نؤسّس نحن نموذجنا السياسي الذي يحترم إرادة الشعوب ويؤسّس لدولة القانون والديمقراطية ويكون قادرًا على الوقوف في وجه التحيّزات الغربية وسياسة "الكيل بمكيالين".
(خاص "عروبة 22")