أشعل الجنرالان حربًا لا يريدان ولا يستطيعان وقفها، ولا يعرفان إلى أين تقودهما، ولا إلى أين تقود السودان، إذا لم تعد الأوضاع إلى شيء من طبيعتها، بنهاية (يونيو) كحدٍّ أقصى، سيواجه السودان خطرين داهمين: الأول، تحوّل الحرب إلى صراعات أعراق وقبائل ومناطق، وثمة مؤشرات ظاهرة أو كامنة في هذا الاتجاه، يواكبها تحفّز دول مجاورة للتدخّل والاستثمار في الحرب، والثاني، تعذّر أنشطة الزراعة في موسمها السنوي بسبب الاضطرابات الأمنية وعدم توفّر الموارد والمواد اللازمة، وبالتالي ضياع موسم الحصاد في الخريف، ما يدفع بالبلاد إلى مجاعة حقيقية.
تهديد قائد الجيش السوداني بالقوة «المميتة»، أو «الغاشمة»، كما تسمى أيضًا في مصطلحات العسكريين، يعني أن بضعة أحياء في الخرطوم ستدمر بلا ضوابط لحسم معركة العاصمة، لـ«تحييد» عناصر «قوات الدعم السريع» أو إجبارها على الانسحاب.
يُفترض أن الجيش يعرف جيدًا طبيعة خصومه المتمرسين بحرب العصابات والمدينين بالولاء للقبيلة أولاً وأخيرًا، وبالتالي فإن إخراجهم من مواقعهم والأبنية التي احتلوها إلى المعسكر المحدّد لهم ليس خيارًا يمكن أن توافق عليه قيادتهم، أما انسحابهم فينقل الحرب إلى مناطق أخرى، في المقابل لم تستطع «قوات الدعم» ولن تتمكّن من طرح نفسها بديلاً من الجيش، ولم تعد قادرة على الاستمرار كشريك موازٍ شرعي ومعترف به، لكنها يمكن أن تصبح مشروعًا انفصاليًا أو تقسيميًا يستنهض امتدادات قبيلة الرزيقات وتحالفاتها في الإقليم.
ربما كان بعضٌ من الفئات المدنية راهن على «قوات الدعم» لتقيم توازنًا مع الإسلاميين داخل الجيش، وهي لعبت هذا الدور عبر قائدها (محمد حمدان دقلو/ «حميدتي»)، وصولاً إلى توقيع «الاتفاق الإطاري» والبحث في دمج الجيش و«قوات الدعم، إلا أن الإسلاميين الذين انكفأوا طوال أربعة أعوام (بعد إسقاط نظام عمر البشير) اعتبروا أن تلك اللحظة حاسمة لمصيرهم، وأن عليهم أن يقلبوا الطاولة.
صبيحة الخامس عشر من (إبريل) الماضي حاصرت قوة من الجيش «قوات الدعم» وهاجمتها في أرض المعسكرات في سوبا، وكان الهدف اعتقال «حميدتي» وكبار معاونيه أو القضاء عليهم، أدى الهجوم المباغت إلى فرار عناصر «الدعم» وانتشارها في أحياء الخرطوم، واندفعت مجموعات منها ‘لى منازل عبدالفتاح البرهان وضباط آخرين بغية اعتقالهم أو قتلهم، لكن هؤلاء تمكّنوا من الانتقال سريعًا إلى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة التي حاولت عناصر «الدعم» اقتحامها والسيطرة عليها، حصل ذلك في الساعات الأولى من الحرب المستمرة، ونجا الجنرالان، وتعذّر تغييب أي منهما، فتعذّر الحسم ولا يزال، وحلّ القتال محل «عملية سياسية» كانت على وشك أن تبدأ.
باتت مراجع عديدة متأكدة أن محاصرة المعسكر والهجوم عليه كان قرار ضباط إسلاميين معروفين في الجيش، ولا تأكيد بأن الفريق البرهان هو مَن أمر بهما، وإنْ كان على علم بالإجراءات الاحترازية التي أُتخذت في أجواء التوتر التي سادت آنذاك بين الجيش و«الدعم»، بعد يومين من معارك شرسة أُقحم فيها سلاح الجو.
وجاء في بيان لجهاز المخابرات العامة السوداني ما يشرح طبيعة المواجهة التي لم تتغيّر، قال «إن المعركة مع ميليشيا الدعم السريع في ختامها»، وأضاف: «في معركة الكرامة لا حياد، إمّا مع الجيش أو مع العدو، لا حوار ولا تفاوض»..
لم «تُختم» المعركة، وأخفقت سلسلة «اتفاقات على وقف إطلاق النار» توسّطت فيها الأمم المتحدة بغية فتح ممرات إنسانية لإيصال مساعدات إلى السكان وإجلاء الأجانب، وفيما صعُب على الوسطاء إقناع الجيش بإرسال «مفاوضين» إلى جدّة، صعُب عليه أيضاً أن يرفض وساطة تقودها السعودية والولايات المتحدة، لم يرضَ الجيش بـ«مفاوضات» تتكرّس فيها ثنائية طرفَين «متساويين»، بل «وافق على محادثات غير مباشرة» وعلى هدنة «موقتة» اعتبرها فرصة لترتيب تمهيد انسحاب «قوات الدعم» من أحياء العاصمة.
علّل الجيش تعليق مشاركته في (محادثات جدّة31 مايو)، بعد موافقته قبل يومين على تمديد الهدنة الهشّة، بـ«عدم التزام الطرف الآخر بتنفيذ أيٍّ من بنود الاتفاق»، كان يردّ عمليًا على بيان لراعيي الوساطة السعودية- الأميركية يتهم «الطرفين» بانتهاك الهدنة: الجيش بمواصلة القصف الجوي لمناطق سكنية، و«قوات الدعم» باحتلال مستشفيات وبيوت واقتحام بنوك ومرافق خدمات.
وقد أشار البيان إلى استمرار المخاطر التي تتعرّض لها المنظمات الإنسانية، فضلاً عن عمليات نهب آلاف الأطنان من المساعدات، دفع انسحاب الجيش من المفاوضات إلى تنفيذ واشنطن تهديدًا لوّحت به سابقًا (أمر تنفيذي وقّعه الرئيس جو بايدن في 4 مايو)، فأعلنت حزمة أولى من عقوبات تشمل أربع شركات لـ«الطرفين» صُنّفت مسؤولة عن أعمال «تهدّد السلم والأمن والاستقرار أو متواطئة فيها»، وتطاول العقوبات بشكل غير مباشر جهات (مثل البنك المركزي السوداني) ودولاً تسهّل أو تسهم في تمويل «منظومة الصناعات الدفاعية» و«سودان ماستر تكنولوجي» بالنسبة إلى الجيش، و«الجُنيد» لتعدين الذهب (يملكها حميدتي وشقيقه عبد الرحيم) و«ترايدف للتجارة العامة» (يديرها القوني، شقيقه الأصغر) بالنسبة إلى «قوات الدعم».
وإذ ساد الاعتقاد بأن الهدف من العقوبات الضغط على «الطرفين» كي يبديا «جدية» في تنفيذ الاتفاقات، «فوجئ» الجيش- كما قال- ببيان أمريكي- سعودي يعلن تعليق «مفاوضات جدّة»، أي وقف الوساطة بسبب عدم قدرة الطرفين على تحقيق هدنة، حاول الجيش بتعليق مشاركته دفع راعيي الوساطة الى الضغط على «قوات الدعم» والتمييز بينه و«بين الميليشيا المتمرّدة»، لكنه لم ينجح، قد يشجّع الوضع المستجد الجيش على تنفيذ تهديد البرهان بـ«القوة المميتة» على رغم كلفته الباهظة بشريًا، تحديدًا من المدنيين، لكن مَن يضمن أن يكون حسم «معركة الخرطوم» نهاية للحرب ولا يفرّخ حروباً عدة متنقّلة؟
كلّ ذلك لا يعني نهاية الدورين السعودي والأمريكي، ولا نهاية دور الأمم المتحدة التي طلب البرهان مجددًا تغيير مبعوثها (وهذا مطلب الإسلاميين منذ منتصف 2022)، لكن تهاوي التسويات أعاد إلى الواجهة مبادرة الاتحاد الأفريقي (بمشاركة الأمم المتحدة وهيئة «إيغاد» والجامعة العربية) التي ستحاول السعي إلى أهداف «مفاوضات جدّة» نفسها، أي وقف الأعمال العدائية والاستجابة الإنسانية لتداعيات النزاع، مع إصرار مسبق على «العملية السياسية الانتقالية» بمشاركة جميع الأطراف السودانية (ما يشمل الإسلاميين أيضاً)، هذه المبادرة التي تعوّل على دور محوري وتنسيق بين الدول المجاورة، ستحتاج حُكمًا إلى دعم حيوي من واشنطن والرياض، لكن مصيرها يتوقف على نجاحها في حلّ إشكالية الطرفين (جيش وميليشيا)؛ لأن الوضع الذي بلغه النزاع بينهما لا يسهّل التوصل إلى أي تسوية.
الوطن