تختلف التجربة النهضوية في لبنان عن تلك التي عرفتها مصر في الحقبة ذاتها التي تُعرف بعصر التنظيمات. ولا شك بأنّ بطرس البستاني هو أبرز النهضويين اللبنانيين نظرًا لإنجازاته المتعدّدة في مجال التعليم والترجمة والصحافة. ولعل الحلقة الهامة في سيرته هي اتصاله بالمبعوثين الأمريكيين، وترجمته مع يوسف الأسير وناصيف اليازجي للكتاب المقدّس.
وقد جعلته الترجمة على اتصال حثيث بالمعاجم اللغوية وهو الذي وضع لاحقًا معجم محيط المحيط. أما شهرة البستاني فتعود إلى إعداده دائرة المعارف التي أصدر منها ستة أجزاء والتي تدل على اتصاله بالمفاهيم والمعارف والعلوم الحديثة.
وقد انتُخب عام 1847 ليكون مقرّر الجمعية السورية في بيروت وكان من أعضائها: كرنيليوس فانديك، ووليم طمسن وناصيف اليازجي ونعمة يافث وسليم نوفل وغيرهم. وكان هدف الجمعية "نشر الثقافة وانهاض الرغبة عمومًا لاكتساب العلوم والفوائد. مجرّدة عن المسائل الخلافية في الأديان والأحكام".
كان من بين الأوائل الذين استخدموا مفهوم الوطن
ومن إسهاماته التربوية إنشاء المدرسة الوطنية عام 1862، واشتهرت المدرسة باستقبالها طلابًا من أديان وجنسيات مختلفة. وقد نشر عام 1860 مجلة نفير سوريا، ثم أنشأ مجلة علمية سياسية سماها الجنان عهد بإدارتها إلى ابنه سليم البستاني.
وترجع أهمية بطرس البستاني بالإضافة إلى إنجازاته التربوية واللغوية والأدبية، أنه كان من بين الأوائل الذين استخدموا مفهوم الوطن، حين أسّس المدرسة الوطنية، التي جمعت أبناء الطوائف دون تمييز، في وقت كانت المدارس إما مسيحية أو إسلامية.
ثم تركيزه على مفهوم الوطن في صحيفة نفير سوريا التي صدرت بعد الأحداث الطائفية. ونقرأ في العدد الأول (يا أبناء الوطن. الفظائع والمنكرات التي ارتكبها أشقاؤنا هذه السنة في ظرف مدة قصيرة وصلت أخبارها إلى أطراف المعمورة. فكان تأثيرها الغم والشفقة من الجهة الواحدة والغيظ والغضب من الجهة الأخرى، يقول: (إنكم تشربون ماءً واحدًا وتتنفسون هواءً واحدًا ولغتكم التي تتكلمون بها وأرضكم التي تطأونها وصوالحكم وعاداتكم فهي واحدة).
والبستاني هو من الأوائل الذين استخدموا كلمة سوريا إشارة إلى أرض الوطن. إلا أنه كان أيضًا في الوقت نفسه يَظهر ولاؤه للدولة العثمانية. ففي العدد الثاني من نفير سوريا، يكتب:
"يا أبناء الوطن. إن التأثّر الذي حصل عند حضرة السلطان عبد المجيد خان لما بلغته أخبار الحركات والإرتكابات التي صار وقوعها في هذه البلاد يتضح جليًا لمن اطلع على الفرمان الصادر بتاريخ (أوائل تموز/ يوليو 1860)، إلى حضرة صاحب الدولة والاقبال فؤاد باشا.. لقطع الفساد وتوقيف مجرى الحركات واستحصال الراحة..).
كان يؤمن، مثل الطهطاوي، بأنّ التربية هي التي تنتج أجيالًا تُسهم في بناء الوطن ورقيّه
ومن بين أبرز ما كتبه هو: خطبة في آداب العرب (1859)، يستعرض فيها تاريخ العرب وآدابهم منذ الجاهلية مرورًا بالدول المتعاقبة الأموية والعباسية. وما أنجزه العرب في العلوم والآداب. ويستخلص ما يلي: جودة العقل العربي وحسن استعداده لتحصيل العلوم، ولا سيما ثلاثة منها: وهي العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية والعلوم اللغوية. ثبات العرب وتجلدهم في مقاساة المشقات والمصاعب المختزنة طبعًا بتحصيل العلوم. فضل العرب على العالم في هذا الأمر وذلك من أوجه عديدة، منها أنه فيما كانت العلوم والآداب في خطر العقد والتلاشي بسبب الحروب والمنازعات والفتن الأهلية في العالم الغربي، وجدت لنفسها في مدارس العرب ملجأ تأوي إليه. فضل اللغة العربية وطواعيتها في قبول العلوم من دون احتياج إلى استخدام لغات أجنبية.
وحول موقف البستاني من النظام السياسي الأفضل، يذكر المؤرخ الفلسطيني بطرس أبو منة (مجلة الدراسات الفلسطينية - العدد 101 - 2015)، أنّ مجلة الجنان كانت "حرّة في نشر أفكارها". وكانت تؤمن بأنّ "أفضل نظام للدولة العثمانية هو تكوينها كاتحاد فدرالي بين مختلف الولايات".
لكن أثر البستاني كان كبيرًا إن في إطلاق الفكرة الوطنية أو الانتماء السوري. وقد كان له الدور الكبير مع أقرانه يوسف الأسير وناصيف اليازجي في نهضة اللغة العربية وآدابها. ومثل كل النهضويين كان بطرس البستاني تربويًا في فكره، يؤمن مثل الطهطاوي بأنّ التربية هي التي تنتج أجيالًا تُسهم في بناء الوطن ورقيّه.
لقراءة الجزء الأوّل: النهضة العربية في ذكرى نهضويين (2/1)
(خاص "عروبة 22")