قضايا العرب

"الصباح التالي".. خطط أمريكية - إسرائيلية لغزّة وغياب الرؤية العربية

القاهرة - أحمد شوقي العطار

المشاركة

بعد مرور نحو 50 يومًا على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، بدأت المخاوف بشأن "اليوم التالي" تتصاعد في الدوائر السياسية والفكرية العالمية، بعد ما وصلت جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني لمدى غير مسبوق من الوحشية.

ترفض إسرائيل العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما فعلت في المرّات الأربع الأخرى من ضرباتها على غزّة منذ عام 2007. ففيما تطرح الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا خطة تعتمد على عودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، تغيب عربيًا، أي رؤية واضحة لمستقبل الوضع في القطاع، مع الاكتفاء بإشارات تفيد بأنّ أي ترتيبات لا تشمل الالتزام بـ"حل الدولتين"، لن تكون مقبولة.

إذًا، يتمثّل الاقتراح الأمريكي المبدئي بـ"عودة السلطة الفلسطينية" بعد إصلاحها، إلى قطاع غزّة، وكشف وزير الخارجية أنتوني بلينكن أمام جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأمريكي في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، عن تفاصيل تلك الخطة، بقوله: "سيكون من المنطقي للغاية أن تتولّى سلطة فلسطينية فعّالة ومتجدّدة الحكم والمسؤولية الأمنية في نهاية المطاف عن غزة"، لكنه استدرك مضيفًا: "إذا لم نتمكّن من ذلك، فهناك ترتيبات أخرى مؤقتة قد تشمل عددًا من الدول الأخرى في المنطقة، وقد تشمل وكالات دولية تساعد في توفير الأمن والحكم".

وفي مؤتمر صحفي بعدها بأيام، حدّد بلينكن موقف إدارة بايدن بشأن الشكل الذي يجب أن تبدو عليه غزّة بعد الصراع، وقال: "تعتقد الولايات المتحدة أنّ العناصر الأساسية يجب أن تشمل عدم التهجير القسري للفلسطينيين من غزّة.. لا الآن ولا بعد الحرب"، مؤكدًا على ضرورة عدم استخدام القطاع مجددًا كمنصّة لـ"الإرهاب"، ورفض احتلاله وحصاره أو تقليص مساحته.

الخطة الأمريكية

وأوضح تحليل نشرته مجلة الـ"تايم"، هذا الشهر، أنّ الخطة الأمريكية تعتمد على تشكيل بنية إقليمية ثلاثية الأطراف، ومربحة لجميع الأطراف في مرحلة ما بعد حرب غزّة، وتتضمّن:

أولًا، إعفاء إسرائيل من الحاجة إلى حكم 2.2 مليون فلسطيني في غزّة، دون أن يلوح لهم مخرج في الأفق.

ثانيًا، أن توفّر للفلسطينيين أفقًا سياسيًا يمنع الضفة الغربية من الانزلاق إلى أزمة شبيهة بأزمة غزّة، في حين يقوم بإعداد السلطة الفلسطينية للسيطرة على القطاع في المستقبل.

ثالثًا، تعزيز تحالف إقليمي قوي بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة تدخلات إيران ووكلائها في المنطقة، بما في ذلك إحياء الحديث عن التطبيع الإسرائيلي السعودي.

يتفق الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير مع الخطة الأمريكية المبدئية، وشدّد كبير الدبلوماسيين في التكتل، جوزيب بوريل، في رؤية مكتوبة قُدّمت للاتحاد،على أنّ إسرائيل لا يمكنها البقاء في غزّة بعد الحرب. وقال: "نعتقد أنّ السلطة الفلسطينية يجب أن تعود إلى غزّة"، مردفًا: "ليس بالضرورة حركة فتح".

وبينما ترغب الولايات المتحدة في عودة السلطة الفلسطينية إلى غزّة، ويقول أعضاؤها إنهم لا يرغبون في العودة دون اتفاق سلام كامل مع إسرائيل، اختصر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية موقف السلطة بالإشارة إلى أنها لن تعود إلى القطاع "على ظهر الدبابات الإسرائيلية". مستبعدًا في مقابلة حديثة مع صحيفة الـ"غارديان"، الذهاب إلى غزّة لإدارة القطاع محل "حماس" دون اتفاق شامل يشمل الضفة الغربية وولادة دولة فلسطينية.

وإذ تخشى "فتح" أنها إذا سيطرت على غزّة دون أفق سياسي واضح فسوف يُنظر إليها على أنها متواطئة مع إسرائيل وأمريكا، تقر السلطة كذلك بضرورة إجراء انتخابات جديدة في القطاع، بعد انقطاع انتخابي دام منذ عام 2006.

خطة إسرائيل

أما تل أبيب فتعارض الحل الذي تقترحه الولايات المتحدة بشدة، وهو الأمر الذي اعترفت به باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى.

ويرفض اليمين المتطرّف دعوات عودة السلطة الفلسطينية، لأنّ هذا من شأنه أن يزيد من احتمالات قيام دولة فلسطينية، ويدعم، في المقابل، سيطرة إسرائيل على القطاع بعد انتهاء الحرب.

وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إنّ إسرائيل ستنشئ "نظامًا أمنيًا" جديدًا في غزّة، لكنه لم يقدّم أي تفاصيل.

وتقوم خطة غالانت، وفق تسريبات إسرائيلية، على أنّ تحتل إسرائيل أجزاء من غزّة، وليس كل القطاع، إلى أجل غير مسمى، مع السعي إلى تجنّب تحمّل المسؤولية عن الحكم المدني في الأماكن الأخرى من القطاع. وهو ما ألمح إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مؤتمر صحفي يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما أكد أنه لن يدعم عودة السلطة الفلسطينية للقطاع قائلًا: "نحن لا نسعى إلى حكم غزّة"، لكنه أضاف مشددًا على وجوب أن تتحمّل قوات إسرائيلية "المسؤولية الأمنية الشاملة" في المنطقة "لفترة غير محدّدة".

وتريد إسرائيل عبر هذه الخطة استعادة ارتباطها بـمبدأ "العمق الاستراتيجي"، وهو المبدأ الذي يسعى إلى الاستيلاء على أراضٍ أجنبية ذات كثافة سكانية منخفضة والاحتفاظ بها إلى أجل غير مسمى، بهدف إبقاء أي قتال خارج نطاق إسرائيل نفسها. وفي الوقت نفسه، لن تسيطر إسرائيل على المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية في غزّة لفترة طويلة، ولن تورّط نفسها في إدارة الحكم المدني في الأراضي المحتلة.

وألمح البروفيسور جاكوب ناجل، مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لهذه الخطة عندما قال إنّ إسرائيل لا يمكنها المخاطرة بالتخلي عن سيطرتها الأمنية على غزّة، "وبغض النظر عن الكيان الذي سيتولى مسؤولية الشؤون المدنية في غزّة، فإنّ إسرائيل ستكون هي السلطة الأمنية الكاملة".

وردًا على الخطة الإسرائيلية المحتملة، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إنه أوضح لرئيس الوزراء الإسرائيلي أنّ احتلال غزّة سيكون "خطأً كبيرًا" وأنّ حل الدولتين هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وبينما لم تتضح رؤية إسرائيل حتى الآن بشأن طبيعة السلطة التي ستحكم غزّة مدنيًا بعد الحرب، في حال احتفظت لنفسها بالسلطة الأمنية على القطاع، وفق خطتها، أثار الإعلام الإسرائيلي هذه القضية، متخوّفًا من خلق "فراغ" في غزّة، ومشددًا على وجوب أن يصبح القطاع بعد انتهاء الحرب مسؤولية فلسطينية أو عربية في المقام الأول.

وتشير التكهنات إلى أنّ تل أبيب تطمع في أن تتولى مصر مسؤولية القطاع، أو في حال فشلت الجهود في إقناع القاهرة بذلك، فالرهان سيكون على قيادة فلسطينية جديدة. إذ ترجّح "فرانس 24" أن يكون محمد دحلان هو الزعيم المحتمل للسلطة الجديدة التي تسعى إسرائيل لإنشائها في غزّة، إذا نجحت في إقصاء "حماس" من السلطة.

ويوضح فريديريك إنسيل، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس والمتخصص في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، إنّ "دحلان يحظى بدعم إسرائيل والولايات المتحدة، لأنه من أوائل القادة الفلسطينيين الذين قبلوا حلّ الدولتين وأوقفوا الدعوات للعنف".

وأمضى دحلان أكثر من عقد من الزمان في المنفى بالإمارات العربية المتحدة، ويعيش في دبي كرجل أعمال ومستشار للرئيس محمد بن زايد آل نهيان مع دائرة واسعة من العلاقات والتشابكات.

قوات دولية

ومن الخيارات المتاحة للمجتمع الدولي، فيما يتعلق بالحكم المستقبلي في غزّة، ذلك الذي يعتمد على فكرة نشر قوة مؤقتة متعددة الجنسيات في القطاع. وطرحت ألمانيا هذا الخيار بالفعل، وفقًا لوثيقة غير رسمية نشرتها مجلة "بوليتيكو"، واقترحت خلالها إمكانية سيطرة الأمم المتحدة على غزّة بمجرد انتهاء الحرب الراهنة بين إسرائيل و"حماس".

وحول هذا الاقترح، يرى السفير المصري السابق عبد الرحمن صلاح الدين، أنّ إمكانية دخول قوة متعددة الجنسيات إلى غزّة لجمع كل الأسلحة التي تحتفظ بها جميع الفصائل الفلسطينية هناك، واردة، على أن تكون "مهمة هذه القوة محددة بفترة انتقالية مدّتها عامين لحين تشكيل قوة شرطة فلسطينية من قطاع غزّة وتدريبها وتجهيزها لتتولى مهام حفظ الأمن"، ويمكن أن يكون لهذه القوة "مكوّن عربي أو شيء مماثل لهيئة حفظ السلام التابعة للقوة المتعددة الجنسيات والمراقبين، التي تشرف على تنفيذ البنود الأمنية لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لعام 1979".

وبالنظر إلى معارضة إسرائيل أي قوة لحفظ السلام بقيادة الأمم المتحدة في غزّة، مع إمكانية قبولها بخيار القوة متعددة الجنسيات، اقترحت ورقة بحثية صادرة عن معهد بيجن - السادات للدراسات الاستراتيجية، دمج الخطة الإسرائيلية والدولية معًا، وتنفيذها على مرحلتين.

في المرحلة الأولى، تتشكل حكومة عسكرية إسرائيلية كاملة ومؤقتة للسيطرة على قطاع غزّة بالكامل، ستعمل على الحفاظ على النظام والأمن وستوفر الدعم الدولي لإعادة تأهيل غزّة.

أما في المرحلة الثانية، فيتم خلالها تسليم القطاع لقوة إقليمية تشمل عناصر فلسطينية محلية ومصريين ودول إقليمية أخرى لها مصلحة في الحفاظ على الاستقرار ​بالمنطقة، مع عناصر من الجيش الإسرائيلي، على أن تلعب إسرائيل دورًا مهيمنًا في هذه القوة، وتعمل بالتعاون مع الأطراف المساهمة الأخرى فيها.

غياب الرؤية العربية

أما عن الأدوار المحتملة لمصر والأردن ودول الخليج العربي، في غزة ما بعد الحرب، فقد تشمل تمويل تعافي غزّة والمساعدة في إعطاء الشرعية العربية لما سيأتي فيما بعد. لكن رغم ذلك، لا توجد رؤية عربية واضحة للوضع في غزّة في المرحلة التي ستلي الحرب، حتى الآن على الأقل، كما لا يوجد اتفاق عربي كامل مع الرؤية الأمريكية لمستقبل القطاع.

كان ذلك واضحًا خلال الجولة الدبلوماسية المكوكية لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في الشرق الأوسط واجتماعه مع وزراء الخارجية العرب في عمّان، مطلع الشهر الجاري، وهي الجولة التي انتهت بخيبة أمل أميركية.

إذ هدفت زيارة بلينكن إلى حمل العرب على الاتفاق بشأن الخطوط العريضة لاستراتيجية "الصباح التالي" في غزة، لكنّ محاوريه رفضوا المشاركة، وتمسّكوا فيما بينهم بضرورة أن يكون "حل الدولتين" هو أساس الحوار.

ورغم اتفاق الدول العربية مع الرؤية الأمريكية في نظرتها للسلطة الفلسطينية على أنها الحل المحتمل والمرغوب على المدى الطويل لقطاع غزّة، لكنها رفضت مناقشة استراتيجية "اليوم التالي"، وأي تفاصيل تتعلق بمسائل مثل من يحكم غزّة ويمارس السياسة ويوفر الأمن فيها؛ ومن يعيد تأهيل السلطة الفلسطينية لتكون قادرة على حكم القطاع.

في المحصلة، وعلى الرغم من تعدّد الخطط والسيناريوهات، يبقى السياق الوحيد المقبول فلسطينيًا وشعبيًا في المنطقة العربية، هو استمرار المقاومة في استنزاف القدرات الإسرائيلية، ونجاحها في فرض رغبة الشعب الفلسطيني بإقامة دولته وانتزاع حقوقه في نهاية المطاف.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن