وجهات نظر

رقصة الحرية.. وسردية 'الهنود الحمر والسود ليسوا أمريكيين'!

كُتب الكثير عن فلسطين منذ أكتوبر الماضي، وانخرط في فعل الكتابة والخطابة مفكرون وباحثون وصحفيون ونجوم كرة وفن، وكذلك فقهاء وعلمانيون، وسياسيون ليبراليون ومحافظون، وحتى بسطاء وعامة الناس، نساءً ورجالًا وشيوخًا وشبابًا وحتى أطفالًا، الأمر الذي جعل القضية الفلسطينية تنبعث من جديد من رمادها، تمامًا كما كان حال العنقاء، ذلك الطائر الخرافي الذي كلّما ضعف وشاخ انتحر حرقًا لينبعث من رماده أكثر قوةً وشبابًا، انبعاث جعل القضية الفلسطينية في قلب الشارع العربي، وحتى الغربي والعولمي، بحيث سالت المشاهد والصور والفيديوهات وأشكال التنديد والرفض، ضد العدوان الصهيوني ردًا على أحداث "طوفان الأقصى"، وانتشرت الأعلام الفلسطينية والكوفية في الطرقات والبرلمانات والمدارس والملاعب والمؤسسات، وتمدّدت حتى إلى أكبر الشوارع العالمية: نيويورك وبروكسيل ولندن وستوكهولم ومنهاتن..

رقصة الحرية.. وسردية 'الهنود الحمر والسود ليسوا أمريكيين'!

تزامن ذلك مع حراك شعبي وفني ورقمي عالمي ساند حق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم، وعرى تهافت وزيف السردية الصهيونية، كما أعاد إلى الواجهة مجموعة من الأغاني القديمة التي كانت المقاومة والحرية موضوعها، من قبيل أغنية جوليا بطرس "عاب مجدك" والأغنية السويدية "Leve Palestina"، وكذلك "رقصة الحرية/الفجر"، وهي رقصة اعتبرها كثيرون مستلهمة من تراث الهنود الحمر الفولكلوري، وقد انتشرت بشكل واسع داخل الفضاء الرقمي مرفقة بأنغام الأغنية السويدية "Leve Palestina"، خاصة حين قام بأدائها أحد شباب المقاومة الفلسطينية، بعد أن سدّد حجارته في اتجاه القوات الإسرائيلية التي تحيط بها النيران، معبّرًا عن إرادة الشعوب دفاعًا عن أرضها ضد  كل أشكال العنف والتنكيل التي تلحقها.

مع وصول كريستوف كولومبوس إلى القارة المُستكشَفة، بدأت فترة مظلمة من تاريخ السكان الأصليين بأمريكا

الحديث عن معاناة الهنود الحمر قديمًا ومعاناة سكان غزّة حاليًا، يضعنا ولو عن غير قصد، في طريق الأنثروبولوجيا الأمريكية وكيفية تناولها لموضوعة الهجرة بعيدًا عن الحيادية والموضوعية، حين تعاملت مع أسطورتها القومية التي تكاد تكون فيها الهجرة شرعية المواطنة "أن تكون أمريكيًا يعني أن تكون مهاجرًا" (دنيس كوش).

معلوم تاريخيًا أنه مع وصول "كريستوف كولومبوس" وسفنه إلى القارة المُستكشَفة حديثًا خلال القرن السادس عشر، بدأت فترة مظلمة من تاريخ السكان الأصليين بأمريكا، شهدوا خلالها موجة عنيفة من عمليات الاستعمار والاستيلاء على الأراضي، حيث قُتلوا بشكل جماعي، ونُهبت قبائلهم وثرواتهم، وتم تهجيرهم من أراضيهم الأصلية، كما تم نقل بعضهم إلى محميات، ولاحقًا تم أسر وسرقة وشراء عدد كبير من السود من سواحل أفريقيا وفرض هجرة قسرية عليهم لاستعبادهم في مزارع القطن بالجنوب الأمريكي خلال عقود طويلة، ومع ذلك لا يُعتبر هؤلاء – أي الهنود الحمر والسود - أمريكيين من منظور الانثروبولوجيا الأمريكية.

ومعناه أنّ السياق القومي الأمريكي من منظور ثقافي واضح الخصوصية، وهو سياق بدأ يتوضّح أيضًا ضمن قوميات أوروبية كنا نظنها محايدة (مفكرون وفلاسفة وسياسيون ساندوا ودعموا عنف المهاجرين اليهود ضدًا عن طروحاتهم ومبادئهم)، ومرد ذلك أنّ "الولايات المتحدة تتمثل ذاتها، منذ القديم، بوصفها بلد مهاجرين ذوي أصول ثقافية مختلفة" (دنيس كوش)، عبر فسيفساء ثقافية تجمع أجناسًا وأعراقًا مختلفة يجمعها رابط الهجرة، "إذ الأمريكي مهاجر أو هو ابن مهاجر.. ولذلك نعت البعض هوية الأمريكيين بأنها هوية "همزات الوصل" إذ يمكن أن يكون الواحد منهم بالفعل الإيطالي-الأمريكي أو البولوني-الأمريكي أو اليهودي الأمريكي"، وقد تمخض عن ذلك ما أمكن اعتباره "فدرالية ثقافية" ولكن بمعايير خاصة، تطلّبت عملية انتخاب وتأقلم وتكيّف وإعادة تأويل ممتد، وفق سياق اجتماعي وقومي جديد بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، والذي أعطى لهم – خاصة البيض منهم - كامل الحرية في امتلاك الأرض والتمتع بمنافع المواطنة الكاملة. يفرض ذلك مبدئيًا من الناحية الأنثروبولوجية على الأقل "اعتبار الهنود، وهم تعريفًا ليسوا مهاجرين، والسود، وهم من كانت هجرتهم قسرية، ليسوا أمريكيين تمامًا" (دنيس كوش).

أن تكون إسرائيليًا تنتفع بالمواطنة يكفي أن تكون يهوديًا مهاجرًا ولا حقّ لأصحاب الأرض شأنهم شأن الهنود الحمر

الرؤية ذاتها سعت بريطانيا، ولاحقًا أمريكا، إلى إعادة إنتاجها مع شتات اليهود من مختلف بقاع العالم، وإذا كانت التجربة الأمريكية نجحت بحيث تحولت قوة عظمى تقود العالم، لماذا لا يُعاد استنبات إسرائيل كقوة عظمى كذلك تقود الشرق الأوسط على أرض فلسطين "الموعودة" بحسب زعمهم، وهنا السياق القومي الصهيوني واضح الخصوصية أيضًا: أن تكون إسرائيليًا وتنتفع بكامل المواطنة والحقوق والأهلية، يكفي أن تكون يهوديًا مهاجرًا" وحسب، ولا حقّ لأصحاب الأرض في ذلك، شأنهم شأن الهنود الحمر سابقًا.

من هذه الخلفية المركزية والسياق اللامحايد، أشار بعض مفكرينا إلى السقوط الأخلاقي أو العفن الأخلاقي للفكر الغربي المدعي العقلانية والحداثة والموضوعية، ردًا على ما صدر عن بعض المفكرين أمثال "يورغن هابرماس" و"نيكولا ديتلهوف" و"رينر فوريست" و"كلاوس غونتر"، من بيانات للدفاع عن حق اليهود المهاجرين في إبادة أصحاب الأرض أو تهجيرهم قسرًا، تحت غطاء الدفاع عن السامية/الخوف من معاداة السامية، لكن رغم سقطة هؤلاء، ليس من سبيل إلى التشكيك في قيم الحداثة وعلومها، أو الدعوة إلى نقضها أو هدمها، "فالحداثة لا تخلو من شرور.. وسيكون من الجيد في الأمر أن تتحوّل قيم الحداثة إلى قيم متعالية، ترانسندتالية، وليست مجرد ممارسات، ونستطيع أن نتعامل مع هذه القيم ونجعل منها معيارًا، لقياس السلوك الغربي، الذي قد يشط عنها في بعض الأحيان"، (حيدر سعيد).

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن