خلال الأسابيع القليلة الماضية، تناقشت كثيرًا وبألم شديد حول كيف سأشرح لطلابي، في حصّة الفلسفة أو التربية في القيم أو تاريخ الفلسفة، أنّه بينما أتحدّث معهم عن أرسطو، أو ماريا ثامبرانو أو أفلاطون وسيمون ويل، في أجزاء مختلفة من العالم، تُلقى القنابل وتسقط دون رحمة، مخلّفة وراءها عددًا كبيرًا من البشر المقتولين، وكيف يحدث كل هذا باسم قيمة أحاول أن أنقلها لكم كل يوم، أقصد العدالة.
كثيرًا ما أتذكّر هذه الأيام أيضًا بعض تأمّلات سوزان سونتاغ في كتابها "مواجهة آلام الآخرين" (2003): "لقد حوّلت الكاميرات التاريخ إلى مشهد. مع أنها تخلق هوية، إلا أنها تشطبها أيضًا، مما يبرّد المشاعر. إنها تخلق ارتباكًا حول ما هو حقيقي أخلاقيًا"، وتتابع الكاتبة الأميركية بدقة: "يمكنك أن تشعر بالالتزام بالنظر إلى الصور التي تسجّل قسوة وجرائم عظيمة، لكن ينبغي للمرء أن يشعر بالالتزام بالتفكير فيما يعنيه النظر إليها، وفي القدرة الفعّالة على استيعاب ما يبدونه".
كيف يمكن أن نضع أعيننا ــ كأساتذة وطلبة، كأمهات وآباء ــ في أعين طلابنا وأبنائنا وبناتنا إذا كان كل ما نعلمه وننقله بحماس وبلا أمل يذكر في مستقبل ملطّخ بدماء التمزق المعمول به ويرتكب يوميًا؟ كيف يمكن لنا أن نستمر في الإيمان بالأخلاقيات، والحفاظ على إمكانية وجودها، في مواجهة عالم ينتهك أبسط حقوق الإنسان؟ كيف يمكننا في النهاية أن نجد الرؤية اليومية للمعاناة الصارخة محتملة في حين يتعين علينا ــ ونحن مطالبون بذلك ــ بالمضي قدمًا في حياتنا، وكأن شيئًا لم يكن؟
ثمة من يلجأ، في رأيي، بطريقة مشوّهة وجزئية إلى حد ما (مع غض النظر الذي يوفره الوضع الاقتصادي الغني)، إلى كتاب مثل سبنسر أو نيتشه، بحجّة أنّ الإنسان لا يحاول إلّا أن ينتصر في الوجود رغم أنف كل شيء وأي شخص، وفي الواقع يفعلون ذلك. لا شيء يهم سوى البقاء آمنًا. وبالتالي، فإنّ الحرب والصراع العسكري ليسا سوى حيلةً من حيل العقل، عذرًا من هيغل، بحيث يتقدم التاريخ بشكل حتمي.
تحوّلت حقوق الإنسان إلى نوع من السلع القابلة للتداول، ولا تنطبق إلا على من يستطيعون تحمّل تكلفتها
وبطبيعة الحال، لكن يظل السؤال: إلى أين يتّجه هذا التاريخ، وكيف يفعل ذلك، دون إجابة، لأنّه لا أحد يريد أن يجيب عليه بشكل صريح لأننا جميعًا ندرك الإجابة جيدًا. لقد أُخضِعَت الأخلاق لخدمة المصالح الاقتصادية، في حين تلتزم الحكومات والشركات بصمت مدوٍ لا يفضي إلا إلى خيانة نواياها.
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وخاصة في المنتديات السياسية المؤسّسية، عن ضرورة تبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل تسير الصقور من جزء واحد من العالم بسعادة من قمّة إلى قمّة في إشارة إلى المطالبة بوضع الحد الأدنى من الأخلاق العالمية بينما يتفشى الجوع والموت وتنهال الصواريخ خارج القصور والمساكن الرئاسية، وتُنتهك أبسط الحقوق الأساسية باسم التقدم والنمو الاقتصادي وحتى باسم العدالة. لقد تحوّلت حقوق الإنسان إلى نوع من السلع القابلة للتداول، ولا تنطبق إلا على من يستطيعون تحمّل تكلفتها، وقد صار طابعها غير القابل للتصرف موضع تساؤل، اعتمادًا على من يضع أسُس التقدم والعدالة.
الأخلاق تنزف من كل مسامها، وطالما استمرت الحكومات في الحفاظ، دون حياء، على سياسة كارل شميت المتمثّلة في الأطراف المتعارضة، بين الناس الذين يعيشون في سلام والناس في حالة حرب، فلن يكون التداول العقلاني أكثر من امتياز تمارسه طبقة ثرية تحاول فرض طريقتها على البقية، في التفكير والشعور والتصرف.
لقد صارت الأخلاق، ومعها حقوق الإنسان، قناعًا فعّالًا يحمي أي نوع من الاستراتيجيات الاقتصادية، وبالتالي يسمح بإدامة وإضفاء الشرعية على التفاوت العالمي، والاستغلال الحر، بل والحروب. أمّا اللغة السياسية، فإنّها مليئة بهذا العدوان، وتدفع السكان إلى الوقوف إلى جانب من يقفون إلى جانب "التقدّم" أو الذين يسعون إلى مهاجمته. الأخلاق هنا كأنّها خدعة سياسية أخرى، وهكذا يقدم الاستقطاب، وتعرف الأحزاب السياسية جيدًا أنّ الاستراتيجية السياسية الأكثر فعالية كانت دائماً وستظل هي نفسها، أي استراتيجية الخوف.
كيف يمكنني أن أشرح لطلابي أن الانضباط الذي أعلّمهم إياه، أي الأخلاق، هو خادم خاضع لمختلف المصالح الاقتصادية؟
كيف يمكننا أن نكون أمهات وآباء ومعلّمين ملتزمين اليوم دون تغطية الواقع، ولكن في الوقت نفسه، نحاول رعاية ذكائهم بشكل دوغمائي حتى يتمكنوا من الحكم على الوضع بأنفسهم؟
كثيرًا ما أقرأ لهم مقتطفًا من فيلسوف ألماني معيّـن، يقترح فيه أنه لا ينبغي لنا أن نثق في القدرة المطلقة المفترضة للعقل البشري، والتي يمكن استخدامها للأفضل ولكن للأسوأ أيضًا.
وفي نهاية المطاف، فإنّ الأطفال، بأدواتهم الفكرية والعاطفية، هم الذين يجب أن يقرّروا ما هو خير وما هو شر، بغضّ النظر عمن يضع قواعد التفكير والشعور، لأنّ هذه القواعد، دائمًا تقريبًا، تكون معيبة بسبب العديد من المصالح التي تحاول جذب انتباهنا واستخدام إرادتنا والتلاعب بهما.
لا فائدة بالتالي، مهما تكرّرت هذه العبارة باستمرار في المنابر السياسية، من أن يبقى القليل من الناس على قيد الحياة إذا افتقر الكثيرون إلى الشروط الأساسية التي تمكّنهم من التفكير في واقعهم، ليتمكّنوا من التفكير في الحرية أو الحقيقة أو الجمال.
وبالرغم من ذلك، ينبغي ألّا نتخلى عنها. لقد أشارت ماريا ثامبرانو في كتابها "الفرد والديمقراطية" (1959) إلى الحاجة إلى تولي زمام حياتنا لا من الناحية الفردية فحسب، بل - وقبل كل شيء - من الناحية الإنسانية، لأنّه لا يوجد شيء يلحق بنا الضرر، من الناحية الأخلاقية، بقدر شعورنا بأنّنا دُمى في يد مصير عنيد.
ما أحاوله في الفصل الدراسي، أن أنقل لطلابي الخطر الرهيب المتمثل في الصمت، أي ثمن صمتنا، وكما أدان جرامشي وثورو وسيمون دي بوفوار بالفعل، فإنّ لامبالاة المواطن تجاه الظلم هي نتيجة اعتياده على إخضاع الأخلاق للمعايير الاقتصادية أو الإمبريالية.
تدريس الأخلاق في المدارس والمعاهد والجامعات هو الشق الوحيد الذي يمكن أن يخترق الصرح النازف
لقد أشار أرسطو بالفعل في كتابه السياسة (الكتاب الأول، الفصل 9) إلى أنّ ضجيج المال يجعلنا صمًّا عن بقية وجهات النظر المحتملة، ويبدو واضحًا أنه ثمة بالضرورة حد لأي ثروة، ولكن في الواقع نرى أنّ العكس هو ما يحدث. لأن كل الذين يتاجرون يزيدون من أرباحهم بلا حدود. وهكذا، فإنّ ضجيج المال يجعلنا صمًّا، ولكنه يدفعنا أيضًا لأن نكون أُحاديين في تصرفاتنا، من خلال تحويل "جميع السلطات إلى ثروة"، على حدّ تعبير أرسطو.
ولمجابهة ما هو مرفوض، لا يمكن أن يكون ثمة حيّز للصمت، ما لم يكن المرء يريد أن يكون شريكًا صامتًا لما يجري. لذلك، لا يمكن للأخلاق أن تكون امتيازًا طبقيًّا، ناهيك عن أن تكون قناعًا لطيفاً ليُنتهك كل شيء تحت اسم التقدّم. كتب أفلاطون في القوانين (V, 729a) أنّ "ما ينبغي توريثه للأطفال ليس المال، بل شعور كبير بالاحترام".
إنّ التفكير الأخلاقي الذي ينتقل بصرامة وفي ضوء الظروف، هو الطريقة الوحيدة لمنح شبابنا تفكيرًا مستقلًا يعرف وقبل كل شيء التمييز. لذلك، يمكنك الاختيار، ولديك الإمكانيات للقيام بذلك، وفي النهاية، لديك الجرأة على القيام به، وفي سيناريو صار فيه اهتمامنا أغلى سلعة استهلاكية، فإنّ تدريس الأخلاق في المدارس والمعاهد والجامعات هو الشق الوحيد الذي يمكن أن يخترق الصرح النازف حيث نضع لامبالاتنا.
(خاص "عروبة 22")