عدد الشهداء والمفقودين والجرحى الكبير، وحجم الدمار الذي لحق بكل شبر في القطاع، طرح عدد من التساؤلات المُلحّة بشأن نتائج عملية "طوفان الأقصى"؟.. وما إذا كانت الصفقة والهدنة التي تم التوصل إليها ستصب في صالح المقاومة أم في صالح الاحتلال؟.
يمكن قراءة مآلات ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عبر وضعه على ميزان المكسب والخسارة من كافة الجوانب، مع الأخذ في الاعتبار عدم التكافؤ الواضح بين إسرائيل المدعومة أمريكيًا وغربيًا، وغزّة ومقاومتها المحاصرة منذ سبعة عشر عامًا في شريط جغرافي ضيّق لا يتجاوز مساحته الـ360 كلم.
الأرض والوحدة
إلى جانب العدد الكبير في الشهداء وحجم الدمار الكارثي، أثار مراقبون قضية تمركز قوات جيش الاحتلال في عدة نقاط بشمال ووسط غزّة، ما قد يؤدي إلى ضياع المزيد من الأراضي التي يسيطر عليها عمليًا الفلسطينيون.
وقبل الاشتباك مع هذا الطرح، يجب العودة إلى السياق الذي نُفّذت فيه عملية "طوفان الأقصى" من جهة، والنظر بشكل أوسع يتجاوز حدود القطاع من جهة أخرى، حيث التمسّك بمبدأ وحدة المصير بين الضفة الغربية والقدس وغزّة، وهو المبدأ الذي طالما سعت حكومات الاحتلال المتعاقبة إلى طمسه.
"طوفان الأقصى" تم تنفيذها في عام سُمي بـ"عام الهجوم الأكبر على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس"، إذ سُجل "ارتفاع قياسي" في التوسّع الاستيطاني هناك، حيث عمدت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، عندما تولّت مهامها نهاية العام الماضي، إلى إطلاق أكبر عملية استيطان على الأقل منذ عام 2012، فدفعت بمخططات لإقامة 12885 وحدة استيطانية في الضفة الغربية، حسب معطيات حركة "السلام الآن" اليسارية الإسرائيلية الرافضة للاستيطان.
ولتقريب الصورة بالأرقام، فسوف ندرك حجم ومدى التطوّر الخطير، الذي طرأ على المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، فوفق الإحصاءات السكانية للمستوطنات، التي يصدرها جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي، ومجلس مستوطنات الضفة الغربية، أنشأت إسرائيل في 1967 مستوطنتين في الضفة الغربية هما كفار عتصيون وتلبيوت الشرقية. وبحلول عام 2017، بلغ عدد المستوطنات هناك 237 مستوطنة بعدد سكان بلغ حوالى 580 ألف مستوطن.
"خمس بقرات حمراء"
أما على صعيد القدس والمسجد الأقصى، فجاءت عملية "طوفان الأقصى" وسط تحذيرات أطلقها كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية، بشأن وجود مؤشرات حول البدء في تنفيذ مشروع "بناء الهيكل" وهدم المسجد الأقصى.
ففي أغسطس الماضي بثّت "القناة 12" الإسرائيلية تحقيقًا استقصائيًا، حول تخصيص حكومة الاحتلال ميزانية لتنفيذ مشروع "بناء الهيكل" في القدس على موقع المسجد الأقصى، في خطوة يطمح لها كثيرٌ من المتشدّدين اليهود.
وذكر التحقيق الاستقصائي أنّ وكيلين في وزارتين تابعتين للحكومة الإسرائيلية، شاركا في استقبال "خمس بقرات حُمر" جُلبت من ولاية تكساس الأمريكية بعد هندستها جينيًا، لذبحها وحرقها و"تطهير" الموقع بدمائها، إذ وبحسب عقيدة بعض الطوائف اليهودية، فإنّ ظهور "البقرة الحمراء" يحمل إشارة إلى قرب هدم المسجد الأقصى و"بناء الهيكل".
وبمحاذاة ذلك طالب وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي قبل أربعة أيام فقط من عملية "طوفان الأقصى"، بالسماح باقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى بالقدس الشرقية على مدار الساعة مع إمكانية صلاتهم فيه.
في المقابل، حذر قاضي قضاة فلسطين، ومستشار الرئيس للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية، محمود الهباش، من خطورة البدء في الترويج لفكرة "ذبح البقرات" عند المسجد الأقصى، بينما يؤكد خالد مشعل، رئيس إقليم الخارج بالمكتب السياسي لحركة "حماس"، في تصريحات إعلامية، إنّ ما جرى تجاه الأقصى وتسارع مخططات الهدم، ومخططات الوزراء المتطرّفين لاستكمال تهويد الضفة والقدس ومعاناة أكثر من 5 آلاف أسير في سجون الاحتلال، وموت غزّة البطيء، كل ذلك شكّل باعثا لـ"طوفان الأقصى" وحاضرًا عند قيادات الحركة وكتائبها حين قررت إطلاق العملية.
دماء غزّة تعيد ترتيب الأجندة
على ضوء هذا المشهد، يمكن القول إنّ غزّة استطاعات بدمائها أن تسلّط الضوء على جرائم الاحتلال، وتعطّل ولو بشكل مؤقت عملية التهام الأراضي في الضفّة، وكذا مخطط تهويد القدس، في ظل أكثر حكومات الاحتلال تطرّفًا، وأمام عجز كامل على المستويات الرسمية في صد تلك الهجمة.
أمر آخر لا يمكن التعامل معه سوى أنه أحد مكتسبات "طوفان الأقصى"، وهو أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة أجندة اهتمامات العالم بعدما كانت في طي النسيان، إذ أصبحت القضية البند رقم 1 في خطابات قادة وزعماء العالم، ليعود البحث عن حلول دائمة في مقدمة اهتمامات هؤلاء القادة، ولعلّ أبرز دليل على ذلك، تصريحات رئيس الوزراء الأسباني من أمام معبر رفح بتأكيده أنّ بلاده "قد تتخذ قرارها الخاص بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية إذا لم يفعل الاتحاد الأوروبي" ذلك. وكذلك تصريح وزير خارجية بريطاني ديفيد كاميرون، بأنّ إسرائيل لن تكون آمنة أبدًا ما لم يكن هناك أمن واستقرار للشعب الفلسطيني على المدى الطويل.
تلك النوعية من المواقف الغربية لم تكن لتأخذ طريقها للفضاء العام لولا ما فعلته عملية "طوفان الأقصى"، التي ألقت بحجر في مياه القضية الفلسطينية الراكدة.
الهدنة مكسب لمن؟
في بداية العملية التي أطلقت عليها حكومة الاحتلال "السيوف الحديدية"، حدّد نتنياهو أهداف حكومته، بـ"تحرير الأسرى الإسرائيليين" لدى المقاومة والذي يقدّر عددهم بنحو 250 أسيرًا بعملية عسكرية، كهدف أول لها دون عقد صفقات مع "حماس"، التي حدد "القضاء التام عليها وانتزاعها من القطاع" كهدف ثانٍ، لكن في نهاية المطاف لم يجد مجلس الحرب الإسرائيلي مفرًّا من الرضوخ للمقاومة والدخول في مفاوضات عبر وسطاء لإقناع "حماس" بالقبول بإطلاق سراح الأسرى بعدما كان يرفض الاعتراف بها.
وفي هذا الإطار يرى مصدر أمني مصري، تحدث لـ"عروبة22" مفضّلًا عدم ذكر اسمه، أنّ الحكومة الإسرائيلية، اضطرّت مجبرةً على اللجوء إلى صفقة التبادل والهدنة ربما بالشروط التي فرضتها المقاومة أمام ضغط الشارع الإسرائيلي وأُسر الرهائن، موضحًا أنه من الناحية العسكرية ستواجه إسرائيل أزمة في مواصلة العملية بالكفاءة نفسها، فخلال الهدنة ستتبدّل معظم المعلومات الاستخبارية بشأن تواجد مقاتلي "حماس" في الميدان، إذا إنّ الحركة لديها ميزة ميدانية مرتبطة بتمتّع مقاتليها بحرية الحركة في باطن الأرض عبر شبكة الأنفاق، مما يمكنهم من إعادة ترتيب أوضاعهم بشكل سلس، على عكس القوات الإسرائيلية التي تتواجد فوق الأرض وحركتها خاضعة لرصد المقاومة.
ويوضح المصدر الأمني أنّ التطورات الميدانية حال امتدّت الهدنة، سيتعيّن بعدها على إسرائيل التحوّل من الهجوم إلى اتخاذ وضع دفاعي، وهو يعني حكمًا تحولًا في أهداف العملية العسكرية.
"أفخاخ الهدنة"
ولعلّ ما يشير إلى حجم الخسارة التي تعرّضت لها حكومة الاحتلال من جراء الهدنة، هو ما جاء من المعسكر الإسرائيلي نفسه إضافة إلى داعميه. فعضو الكنيست عن حزب "الليكود" تالي غوتليف رأى في تصريحات نقلتها صحيفة "هآرتس" أنّ إسرائيل قدّمت كل شيء لـ"حماس" في اتفاق الهدنة "من دون أن تتلقى حتى إشارة حياة من الأسرى في غزّة"، مضيفًا أنّ "الموافقة على ساعات وقف لإطلاق النار وإدخال الوقود، هي تصرّفات عزّزت "حماس"، التي تفسّر ذلك على أنّه ضعف من قبلنا".
الأمر نفسه أكد عليه جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، وأحد مهندسي "صفقة القرن" التي كان يروّج لها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إذ أكد أنّ "حماس حققت انتصارًا كبيرًا على إسرائيل".
وذكر بولتون في مقال نشره في صحيفة "تلجراف" أن لصفقة التبادل ثمنًا ومكاسب، لكن مقاتلي "حماس" جنوا أغلبية المكاسب، معتبرًا في الوقت ذاته أنّ صفقة التبادل "معيبة بشكل قاتل" من جوانب عدة، ومتسائلًا عن عدد الجنود الإسرائيليين الذين سيُقتلون بسبب الفرصة التي تتيحها الهدنة لـ"حماس" لنصب مزيد من "الأفخاخ".
أما على المستوى السياسي الداخلي الإسرائيلي، فجرّت الصفقة بمجرد الموافقة عليها خلافات حادة داخل حكومة الاحتلال، إذ وصفها وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بـ"الخطوة الخطيرة"، وهاجم، في بيان، قرار الحكومة بالمصادقة على الصفقة، مؤكدًا أن المستفيد منها حركة "حماس"، التي حصلت على كل ما كانت تسعى إليه من إطلاق سراح أسراها وإدخال الوقود والمساعدات للقطاع، وتحسين صورتها دوليًا بإطلاق سراح النساء والأطفال الذين كانوا بحوزتها.
وفي المقابل، أكد الناطق باسم "كتائب القسام" أبو عبيدة، في كلمة مسجّلة نُشرت على الحسابات الرسمية لحركة "حماس" أنّ "ما قبل به العدو في الهدنة المؤقتة وصفقة التبادل الجزئية هو ما كنا نطرحه قبل بدء المناورات البرية الصهيونية ورفضه العدو في حينه، وزعم أنه سيحقق هذه النتيجة بالقوة العسكرية، في حين أكدنا ولا زلنا نؤكد أنّ السبيل الوحيد لإعادة أسرى العدو هو التبادل"، في إشارة صريحة إلى رضوخ حكومة الاحتلال لشروط المقاومة.
أما عن موقف القوات الإسرائيلية المتواجدة في الوقت الراهن داخل قطاع غزّة، فيشدد قيادي بالمكتب السياسي لـ"حماس" على أنّ "أيّ اتفاق مرتبط بوقف دائم لإطلاق النار لا يؤدي لخروج تلك القوات من غزّة لن يُعتد به"، مضيفًا لـ"عروبة 22": "ستكون تلك القوات هدفًا لمجاهدي "القسّام" وكما استطاعوا أن يجبروا الاحتلال على القبول بالهدنة والصفقة، تحت وطأة الخسائر الميدانية التي تعرّض لها، سيجبروه أيضًا على الهروب من جحيم غزّة كما هرب منه في 2005".
(خاص "عروبة 22")