هو ليس تعبيرًا بلاغيًّا، بل تقييم استراتيجي حقيقي لأعباء مهمّة الجيش الإسرائيلي، إن هو نجح في استكمال احتلال غزّة كلّها، وأهمها مسؤولية الجيش عن الإعاشة اليومية لسكان غزّة الذين يدور عددهم حول مليوني مواطن، والأخطر أنه بالإضافة إلى الخسائر البشرية والمادية الباهظة التي سيتكبّدها جيش الاحتلال أثناء العمليات، سوف يصبح كلّ شبر في غزّة من جديد موقعًا مُحتملًا للمقاومة على نحوٍ يكرّر نموذج خبرات التحرّر الوطني في العالم، ومنها غزّة التي كانت دائمًا، وبصفةٍ خاصّةٍ منذ منتصف خمسينيّات القرن الماضي أيقونةً للنضال التحرّري الفلسطيني.
نتنياهو عاجز بعقليته الاستعمارية عن فهم منطق التاريخ
يعوّل الانهزاميون والمتخاذلون على أنّ الصورة مختلفة هذه المرّة، فقد تمّ تدمير غزّة بالكامل تقريبًا، وقتل ما يزيد على 60 ألفًا من أهلها، ناهيك بالمصابين وبالظروف اللاإنسانية التي يعيشون فيها، وأصحاب هذا المنطق بعيدون كلّ البُعد عن فهم منطق التاريخ وحكمته ودروسه، فالاحتلال ومقاومته صنوان لا يفترقان كما يخبرنا التاريخ.
غير أنّ مشكلة نتنياهو أنّه، كغيره من القادة الاستعماريين المتطرّفين، لا يؤمن إلّا بمنطق القوة، مع أنّها قد تكون الطريق المضمون للانكسار إذا لم ترتبط برؤيةٍ سياسيةٍ سليمة، وبطبيعة الحال فإنّ نتنياهو عاجز بعقليته الاستعمارية هذه عن فهم منطق التاريخ، مع أنّ الدروس مُتاحة وواضحة للجميع.
المقاومة تصاعدت عبر الزمن وتجاوز أمد المواجهة الحالية حرب تأسيس إسرائيل بأكثر من الضعف
ولماذا نذهب بعيدًا ولدينا المشروع الصهيوني نفسه في فلسطين، فلو اعتبرنا أنّ بداية هذا المشروع يمكن التأريخ لها عام 1897، وهو عام انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل في سويسرا الذي أعلن هدف الحركة الصهيونية المتمثّل في إقامة دولةٍ يهودية، فإنّ معنى هذا أنّ هذا المشروع قد تجاوز القرن وربع القرن عمرًا من دون أن يكون قادرًا على تحقيق الاستقرار والقبول لإسرائيل في المنطقة التي زُرعت فيها، أو إخماد مقاومة شعبها، بل على العكس فإنّ هذه المقاومة تصاعدت عبر الزمن إلى أن وصلت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى القدرة على القيام بعملية هجومية أفضت إلى أطول حرب في تاريخ الكيان الصهيوني.
فقد تجاوز أمد المواجهة الحالية حرب تأسيس إسرائيل 1948 بأكثر من الضعف، إذ لم تدُم تلك الحرب لأكثر من 9 شهور، بينما تقترب المواجهة الحالية من السنتين عمرًا. ويقول البعض إنّ هذا صحيح، ولكنّه أفضى إلى خسائر بشريّة وماديّة فادحة تجعل الحديث عن أي إنجازٍ للقضية الفلسطينية عبثًا، وهو منطق بعيد تمامًا عن دروس الخبرة التاريخية، ولو كان صحيحًا لأُدينت كل حركات التحرّر الوطني بالحماقة، ولما أصبح لحرب المليون ونصف المليون شهيد في الجزائر وغيرها من حروب التحرّر الوطني التاريخيّة هذه القيمة العظيمة.
وإذا كان نتنياهو غير مستوعبٍ لحركة التاريخ، فماذا عن تجربته الذاتية وتجربة معاصريه الذين فشلوا جميعًا في وضع حدٍّ للمقاومة في غزّة، حتى اضطرّت إسرائيل لسحب قواتها منها في 2005، وهي العملية التي سُمّيت بفكّ الارتباط من جانب واحد. والمُثير أنّها تمّت على يد واحدٍ من أشرس قادة إسرائيل وأكثرهم توظيفًا للقوة في مواجهة الفلسطينيين والعرب وهو أرييل شارون الذي يختلف عن نتنياهو في خلفيّته العسكرية التي جعلته يدرك استحالة القضاء على المقاومة فيها، بل إنه قام بتفكيك المستوطنات القريبة منها حتّى لا تكون في مرمى نيران المقاومة في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ إسرائيل.
خيار احتلال غزّة بالكامل تطبيق حرفي لتعريف أينشتاين للغباء
ولا يبدو نتنياهو قريبًا بأي درجةٍ من هذه الطريقة في التفكير، مع أنه عايش بنفسه إخفاق خططه المتتالية لمواجهة "طوفان الأقصى"، من "السيوف الحديديّة" إلى "القوة والسيف" بعد عام ونصف العام عندما انتهكت إسرائيل الهدنة في مارس/آذار الماضي، إلى "عربات جدعون" في مايو/أيار، إلى "الليث المُشرئب" في يوليو/تموز، وكلّها أسماء باتت مثارًا للسخرية بعد الفشل المتكرّر في تحقيق أي هدفٍ سوى القتل والتدمير. والآن يتّجه نتنياهو لخيار احتلال غزّة بالكامل، وهو الخيار الذي أُشهِر إفلاسه منذ عقدَيْن، في تطبيق حرفي لتعريف أينشتاين للغباء، وهو أن تُكرّر العمل نفسه وتتوقّع نتيجة مختلفة!.
(خاص "عروبة 22")