في كتابه "عالمنا الافتراضي"[2] يقدم بيير ليفي - Pierre Lévy ، إجابة أقرب ما تكون إلى النفي، باعتبار الافترضين نمط وجود خصب وقوي يغني عمليات الإبداع ويفتح آفاق المستقبل، إذ يصبح بالإمكان أن نكون "مجموعة افتراضية"، أو "أصدقاء افتراضيين"، أو "مؤسسة افتراضية" أو "ديموقراطية افتراضية".
جاء الكتاب مقسّما إلى تسعة فصول، محدّدًا ومعرّفًا في الفصل الأول مفهوم 'الافترضان/virtualisation' بما هو حالة انتقال من الفعلي إلى الافتراضي، لا يتعارض فيها الافتراضي مع الحقيقي، ولكن مع الفعلي، يقول "ليفي" في هذا الصدد: "وعلى النقيض من الممكن الساكن الذي سبق أن تشكّل، فإنّ الافتراضي هو بمثابة مجتمع إشكالي أي عقدة تيارات أو قوى مرافقة لحالة أو لحدث أو لغرض، أو لأي كان". فيما حدّد الكاتب في الفصل الثاني وضعية افترضان الجسد، وتتحقق عملية التحوّل هذه عندما يتحوّل الناس أو المجتمع إلى كيان افتراضي، فيتموضعون "خارج الهنا" بلغة "هايدغر"، ويصبحون بلا مكان محدّد، وفي سياق هذه السيرورة الافترضانية المعاصرة للجسم، المنظمة بواسطة أنظمة الاتصال عن بعد، يشرح "ليفي" كيف يستخدم الناس الهاتف للسمع، والتلفاز للرؤية وأنظمة التداول عن بُعد للحس والتفاعل الحسي الحركي، بحيث يتجلى دور هذه الأجهزة في القيام بالمحاكاة الافتراضية للحواس، يقول "ليفي" في هذا الصدد: "يتكاثر الجسم حين يحاكي نفسه افتراضيًا، فنخلق لأنفسنا أجسامًا افتراضية تغني عالمنا الحسّاس".
يتطرّق الفصل الثالث إلى حالة افترضان النص من وجهة نظر مغايرة تعتمد على المقارنة بين النص التقليدي منذ نشوئه في بلاد الرافدين، والنص الجديد الذي أصبح يملك خصائص تقنية يندرج تحليلها ضمن جدلية الممكن والحقيقي، بالإضافة إلى ذلك يتوسع "ليفي" في شرح خصوصية النص التشعبي الحاضر في الفضاء الافتراضي ومميزاته، هذا النص الذي سمح بتبادل أدوار القراءة والكتابة بين الكاتب والقارئ، ومشاركة القارئ في هيكلة النص وإبراز معانيه الممكنة. فيما خصّص الكاتب الفصل الرابع للحديث عن "افترضان الاقتصاد" بالتأكيد على أنّ الاقتصاد المعاصر هو اقتصاد التهجير أو اقتصاد التحوّل الافتراضي الذي طال كل شيء (المال، المعلومة، العمل، السوق، والذكاء الجمعي..) لم تعد بموجبه مفاهيم الإنتاج والاستهلاك ملائمة لفهم السيرورة الجارية، بل وجب فهمها كأحداث تجري داخل نوع من النفسانية الاجتماعية العظمى في موضوع يخص ذكاءً اجتماعيًا في طور الولادة.
تحت عنوان الافترضانات الثلاث التي صنعت الإنسان اللغة والتقنية والعقد، يشرح "ليفي" في الفصل الثالث عملية التحوّل من الواقع إلى الافتراضي على صعيد اللغة (افترضان الحاضر) التي أعادت تشكيل الماضي والمستقبل، وتشكيل الزمن كمملكة في حد ذاتها، وبفضل ذلك مكنت اللغة البشر من السكن في الافتراضي وعوالمه، وسمحت بتدفق كلي للزمن. أما على صعيد التقنية (الفعل) فيعتبر "ليفي" أن التقنية لا تفرضن الأجسام والأعمال فحسب، ولكنها تفرضن الأشياء أيضًا، ونتيجة لذلك يمكن النظر إلى الأداة التقنية نفسها بحسب أربعة أنماط وجود: التحوّل إلى إشكالية والتهجير والانتقال إلى الجمهور، وإعادة تشكيل وظيفة الجسد، بحيث تصبح الأداة التقنية عامل افترضان، "تقوم مطرقة ما مثلًا بالتحوّل الافتراضي حين نعتبرها ذاكرة لاختراع المطرقة، وناقلًا لمفهوم، وعاملًا لتهجين الجسم". أما على صعيد افترضان العقْد (العلاقات الاجتماعية)، يعتبر صاحب الكتاب أنّ الإنسانية انبثقت من ثلاث سيرورات افترضانية، أما السيرورة الأولى فقد جاءت مرتبطة بالرموز: افترضان الزمن الحقيقي، وأما الثانية فتكلفت بها التقنيات: افترضان الأفعال والجسم والبيئة الفيزيائية، وأما السيرورة الثالثة فهي تنمو مع تعقيد العلاقات الاجتماعية، ويجمل "ليفي" الافترضانات الثلاثة هذه بشكل موجز في معنى "افترضان العنف".
ينتقل الكاتب في الفصل السادس إلى طرح عمليات الافترضان أو الثلاثي الأنثروبولوجي من خلال ثلاثي العلامات، الأشياء والكائنات، والنحو والبلاغة كوقائع افتراضية أو آليات انعكست على إنسانية الانسان وسلوكه ولغته ومساراته الحيوية. في هذا الفصل يدعو صاحب الكتاب إلى طرح سؤال وعلى غير المتوقع في اتجاه تحديد الواجب اتخاذه لمتابعة عملية استحداث ثقافية انعكاسية افتراضانية، بدل التساؤل حول تقويم مدى جدوى وفائدة الافتراضي كما كان ينتظر القارئ.
في الفصل السابع المتعلق بـ افترضان الذكاء وتكوين الذات، يفترض "بيير ليفي" أننا ككائنات لا نفكر أبدًا لوحدنا أو بدون أدوات، بل على العكس من ذلك تزوّد المؤسسات واللغات وأنظمة الإشارات، وتقنيات التواصل والعرض والتسجيل نشاطاتنا الإدراكية بالمعلومات، ومنه ينتقل إلى طرح السؤال حول كيفية الإفادة من الافتراضي، من منطلق كوننا "لا نمارس إمكاناتنا الذهنية العليا إلا من خلال المشاركة في مجتمعات حية مع تراثها وصراعاتها ومشاريعها سواء في الخفاء أو الواجهة، وتكون هذه المجتمعات موجودة دائمًا في كل فكرة من أفكارنا، ومن جانب آخر تدمج الأدوات والظواهر المصطنعة التي تحيط بنا الذاكرة الإنسانية الواسعة، ونحن نلجأ إلى الذكاء الجماعي كلما استخدمناها".
يتابع الكاتب في الفصل الثامن ما بدأه في الفصل السابع حول افترضان الذكاء والغرض، متناولًا العديد من المسائل التي تتعلّق بالذكاء الاجتماعي والغرض الإنساني كالبيروقراطية وعلم الثقافة والرياضة/الحضور في الملاعب، والمال ورأس المال والمجتمع العلمي، حيث يمثّل الفضاء الافتراضي في جميع هذه الأمثلة أهم الأغراض المحرّضة للذكاء الجماعي باعتباره غرضًا مشتركًا وديناميًا، يبنيه أولئك الذين يستخدمونه أو على الأقل أولئك الذين يغذونه.
ينتهي الكاتب في آخر فصل من كتابه (الفصل التاسع) إلى الحديث عن الرباعي الأنطولوجي: "الافترضان تحوّل من بين غيره من التحوّلات"، ويخلص فيه إلى أن "الواقعي والممكن والحالي والافتراضي يكمل بعضها بعضًا، ويمتلك استحقاقًا أنطولوجيًا متكافئًا، ولا علاقة له بعالم مزيّف أو خيالي، ويستند "ليفي" في ذلك إلى ما قدّمه "جيل دولوز" في كتابه الاختلاف والتكرار (Différence et Répétition)، حيث الحقيقي يشبه الممكن، أما الفعلي فإنه يُرَد على الافتراضي، كما يؤكد على أن "الافتراضي يجسّد دينامية العالم المشترك" وهو الذي نتقاسم الحقيقة من خلاله.
ينهي "بيير ليفي" كتابه بجملة فيها الكثير من المعاني المردودة على تخصّصه كأستاذ للفلسفة بجامعة باريس، يقول فيها: "يا من قفزتم أحياء في الافتراضي، يا من تم أخذكم في هذه القفزة الهائلة التي أنجزها الجنس البشري إلى ما قبل تدفق الوجود، نعم، في قلب هذه الزوبعة الغريبة، إنكم في بيوتكم. أهلا بكم في المسكن الجديد للجنس البشري، أهلا بكم في الافتراضي!".
[1] في كتابه 'التبادل الرمزي والموت' يرى بودريار أن المجتمعات الغربية خضعت "لمدار المصطنع"، وهذا ما أخذ شكل تنسيق المصطنعات، من مرحلة الأصل إلى مرحلة التقليد إلى النسخة، بيد أن بودريار يميز بين المصطنع والنسخة، من حيث أن النسخة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل، بينما المصطنع –الذي تنتجه وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات- لا يفعل غير اصطناع مصطنعات أخرى، هنا يختفي كل مفهوم للأصل، لحدث أصلي، لحقيقة أولى بحيث لا يبقى مجال لغير المصطنعات.
[2] بيير ليفي، عالمنا الافتراضي: ما هو؟ ما علاقته بالواقع؟، ترجمة: رياض الكحال، البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2018.
Pierre Lévy, QU’EST-CE QUE LE VIRTUEL ?, La découverte, 1995.
(خاص "عروبة 22")