في حواره مع "جيروزاليم بوست" قبل أسابيع، والتي حرصت على تقديمه فيه "كيهودي يعتز بيهوديته"، مشيرةً إلى دوره الذي وصفه إسحاق رابين بـ"المحوري في الحفاظ على بقاء إسرائيل في الفترات الصعبة التي مرّت بها"، قال هنري كيسنجر إنه كوزير خارجية لديه كل التقارير الاستخباراتية التي تقول بقوة جيش الدفاع الإسرائيلي فوجئ بما جرى في أكتوبر 1973 أو بالأحرى بقدرة المصريين على عبور خط بارليف الحصين "That is practically– almost– impossible"، كما يقول للجريدة الإسرائيلية نصًا، وهو الأمر الذي يبدو، من زاوية المفاجأة وقد تكرّر حرفيًا في أكتوبر 2023، بمفاجأة وزير الخارجية الأمريكي كغيره بقدرة المقاومة الفلسطينية على اجتياز الجدار الإلكتروني المحصّن الذي يفصل غزّة عن جوارها.
ربما لم يكن هنري كيسنجر، الذي كان أول ما فعله يومها كما يقول هو البحث عن السفير الإسرائيلي لدى واشنطن يستجيب -حرفيًا- لما كانت تطلبه جولدا مائير؛ رئيسة الوزراء المصدومة بما جرى ظهيرة هذا اليوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول، ولكنه في النهاية وبحسابات الحقل والبيدر صنع لإسرائيل -الكيان- ما تريد وتسعى إليه. بالضبط، كما نرى الآن، فأنتوني بلينكن قد يقول من التصريحات بشأن مستقبل غزّة ما لا يعجب نتنياهو؛ رئيس الوزراء المصدوم بما جرى صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولكنه وإدارته في نهاية المطاف يقدمان للدولة العبرية -بحسابات التأثير في مجريات الأحداث- كل دعم دبلوماسي، ومالي، وعسكري يمكّنها من المضي قدمًا نحو ما تريد.
لم يكن لـ"صفقة القرن" مكان في المعادلات الشرق أوسطية لولا التمهيد لها قبل عقود بحديث عن إزالة "الحاجز النفسي"
لمن يذكر، لم تكن الحرب قد وصلت إلى نتائجها بعد، حتى كان هنري كيسنجر قد بدأ جولاته "المكوكية" في المنطقة (زارها 11 مرة) وفي باله ليس فقط الترتيب لاتفاقات فض الاشتباك العسكري، بل لما هو أبعد من ذلك بكثير، منطلقًا من فهمه لحقيقة أنّ أمن إسرائيل لن يتحقّق فعليًا إلا "بإنهاء الصراع" وتطبيع علاقاتها مع جيرانها. وهو المشروع الذي بات مفهومًا أنه وجد نافذة له مما جرى بينه وبين الرئيس المصري وقتها أنور السادات، وهو الأمر الذي ما زالت تفاصيله محل جدل كبير.
أيًا كان أمر مشروع كيسنجر - الجاري محاولة استكماله على نحو يضمن الهيمنة الإسرائيلية -، فلا أحد يمكنه أن يقطع بتفاصيل البدايات. ففي غياب "إدارة مؤسسية للدولة" المصرية، كما هو الحال في كل الدول العربية، وفي غياب وثائق -وطنية- يمكن التعويل عليها، لا يمكن الجزم بدلالات الرسالة المفاجئة والمستغرَبة، التي أشار إليها كوثيقة هنري كيسنجر في كتابه Crisis (2003) والتي يقول إنها وصلته من الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بتوقيع مستشاره للأمن القومي وقتها حافظ اسماعيل، بعد ساعات فقط من عبور الجنود المصريين للقناة في السادس من أكتوبر 1973، والتي يقول فيها: "إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة".
ربما لا أحد يمكنه القطع بما إذا كانت هذه الرسالة؛ والتي أوصلها هنري كيسنجر في ساعتها بالتأكيد إلى قيادة العدو في تل أبيب كانت "خداعًا" استراتيجيًا، كما يُحب أن يراها البعض، أم "خطأً" استراتيجيًا، كما يقول آخرون، لكنّ أحدًا لا يمكنه أن يغفل ما تعنيه الرسالة، ولا كيف استخدمها ثعلب الدبلوماسية الأمريكية الذي كان يعمل يومها "على مهل" على تثبيت الدولة "اليهودية" في المنطقة. كما أنّ أحدًا لا يمكنه إلا وأن يعتبر أنّ تلك الرسالة اللغز كانت بلا شك الخطوة الأولى نحو "كامب ديفيد"، وما تلاها.
كما لا يمكن لقارئ التاريخ أن يغفل الدور المحوري الذي لعبه مهندس خرائط عالم النصف الثاني من القرن العشرين؛ هنري كيسنجر في التمهيد لهذه الخطوة المفصلية في تاريخ الشرق الأوسط. وفي كل الأحوال، وأيًا كان الموقف من كامب ديفيد، أو ما تلاها، أو دور هنري كيسنجر في الأمر برمته، فلا جدال في أنّ "الشيطان يكمن في التفاصيل"، وبعض هذه التفاصيل قرأناها في كتب/مذكّرات وزراء الخارجية المصريين الثلاثة (إسماعيل فهمي، ومحمد رياض، ثم محمد إبراهيم كامل) الذين تركوا أيامها مناصبهم بالاستقالة تباعًا، اعتراضًا على "التفاصيل".
ذهب هنري كيسنجر في عامه المائة ولكن "تحيّزاته" لم تذهب معه
بالمناسبة، ربما لم يكن هنري كيسنجر حاضرًا، بشخصه في الإدارة الأمريكية وقت كان فريق دونالد ترامب يُدبج تفاصيل "صفقة القرن"، ولم تكن ضحالة ترامب بالتأكيد تتسع لعمق ذلك الدبلوماسي العتيد خريج هارفارد، ومهندس مفاوضات الحرب الباردة، إلا أنّ "الصفقة" لم يكن ليصبح لها مكان في المعادلات الشرق أوسطية التاريخية المعقدة، لو لم يكن التمهيد لها قد جرى قبل عقود بحديث متفائل -ربما أكثر مما يجب- عن إزالة "الحاجز النفسي"، وهو الشعار الذي بات بعد أربعة عقود من حديث السادات عنه، الركيزة الأساسية لحملة إسرائيلية ضخمة للعلاقات العامة، بدأت مع الصور الباسمة للاتفاقات الابراهيمية، وتوّجت بحديث نتنياهو أمام الأمم المتحدة (22 سبتمبر/أيلول 2023) عن مستقبل مزهر "ليس للفلسطينيين فيه حق الاعتراض"، ثم كان أن كشفت الوحشية الإسرائيلية الدائرة في غزّة عن ما في الشعار -الذي يفتقر إلى شروطه- من عوار، وتذكرنا بما في أبسط قواعد المنطق من بداهة: لا يمكنك أبدًا أن تعالج أي مشكلةٍ قفزًا إلى نتائجها، بل بالنظر في الأسباب. لم يكن الحاجز النفسي أبدًا المشكلة -في ذاته-، بل ما حاول هذا وذاك تجاهله من أسباب- على الأرض- أوجدت هذا الحاجز جدرانًا صلدة ملطخة بالدماء.
ذهب هنري كيسنجر إذن في عامه المائة، ولكن "تحيّزاته" لم تذهب معه، فسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الشرق أوسطية التي وضع بوصلتها وزير الخارجية المخضرم بحيث تضمن الهيمنة الإسرائيلية، ما زالت قائمة ويجري التعبير عنها بكل طريقة كل يوم، وما فعله عشية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 من ترتيب جسر جوي لنقل العتاد العسكري لإسرائيل إبان الحرب لا يختلف كثيرًا عن ما اتُخذ عشية هجوم المقاومة الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول 2023 من قرارات أكثر صراحة بإرسال جنود أمريكيين، أو بتحريك القطع البحرية الكبرى إلى الشرق الأوسط، دعمًا لإسرائيل وإن في مواجهة ما قد يكون مشاركة محتملة من إيران أو حلفائها في المنطقة.
ذهب كيسنجر، ولكننا ما زلنا نشعر ببصماته، وربما نسمع قهقهاته تلك في جلساته المخادعة مع رئيس الدولة العربية- المركزية-، أو التي كانت كذلك؛ في حسابات الصراع، والقوى في المنطقة.
ذهب كيسنجر بعد أن رأى بعد نصف قرن من استغرابه لرسالة السادات أنّ الصراع العربي الإسرائيلي لم ينتهِ بعد
ذهب كيسنجر بعد أن أعادت له صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ذكريات صدمته في أكتوبر/تشرين الأول 1973.
ذهب كيسنجر بعد أن رأى بعد نصف قرن من استغرابه لرسالة السادات، أن لا مكان لشرق أوسط جديد لم تحضر شرائطه، وأنّ الصراع العربي الإسرائيلي لم ينتهِ بعد، رغم كل محاولات الأشقاء- قبل الأعداء- للالتفاف حول حقائقه:
- هناك دولة احتلال توسعية شرهة باتت لا تخفي ما تضمر.
- هناك مقاومة، ككل مقاومة في التاريخ؛ لا تأبه بالثمن بحثًا عن الحقوق.
- هناك درس لا يريد ورثة كيسنجر أن يتعلّموه: لا سلام بلا عدل.
وبعد،،
فلستُ ممن يفتشون في ضمائر الناس، أو معتقداتهم الدينية، أو يعتبرون عقائدهم تلك مرجعًا للتحليل السياسي. ولم يكن بنيتي قطعًا أن أشير إلى هوية هنري كيسنجر الدينية -كما فعلت الجريدة الإسرائيلية الشهيرة-، ولكن تصريح بلينكن الصادم في مجلس الحرب الإسرائيلي، بأنّ "يهوديته هي ما أتت به إلى هنا"، في تأصيلٍ لا أساس له لطبيعة الصراع، وفي تماهٍ صارخ مع البروباغندا الإسرائيلية الواضحة كان صادمًا بما يكفي لأن أفعل.
كفانا الله شرّ من يريدها، في قرننا الحادي والعشرين حربًا دينية - صفرية- لا تبقي ولاتذر.
(خاص "عروبة 22")