صحافة

الأمم المتحدة والتعايش مع حرب الإبادة في غزة

عبد الحميد صيام

المشاركة
الأمم المتحدة والتعايش مع حرب الإبادة في غزة

تقترب حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة من اكتمال عامها الثاني. وهذه أول حرب شوهدت عالميا بالصوت والصورة وبشكل مباشر لا مجال للإنكار أو التحريف أو التخفيف أو قلب الحقائق. ولا شك أن سردية الكيان تناثرت أمام المشاهد المريعة للأطفال الجوعى والتزاحم حول مراكز توزيع الغذاء والمحتمين بساحات المستشفيات المدمرة ومدن الصفيح والخيام المتناثرة على شواطئ غزة ومدنها ومخيماتها المدمرة.

وكما شنت حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة شنت إسرائيل حرب إبادة أخرى على المواقف الدولية في محاولة لتدمير كل من يجرؤ على الدخول في منطقة المحرمات بوصف ما يجري بأنه إبادة أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب. وأستطيع أن أقول بنوع من الثقة إن إسرائيل نجحت في إرهاب الغالبية الساحقة من المسؤولين الدوليين وإلزامهم بتكرار مواقف تلتف على الحقائق وتتحايل عليها. تتمحور مواقف المسؤولين الدوليين من حرب الإبادة حول ثلاث نقاط أساسية يكررونها كالببغاوات بعد أن يبدأوا أحاديثهم دائما بجملة "لا شيء يبرر الهجوم الإرهابي الذي شنته حركة حماس والمجموعات المسلحة الأخرى يوم 7 أكتوبر والذي أدناه بأقسى العبارات"، يطالب المسؤول بـ: وقف إطلاق النار فورا،  إطلاق سراح جميع الرهائن بدون قيد أو شرط، إيصال المساعدات الإنسانية بكميات كبيرة وهذا يشمل المواد الغذائة والطبية والمحروقات.

لكن أحدا من المسؤولين لا يأتي على ذكر آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين خطفوا من بيوتهم ومستشفياتهم ومراكز أعمالهم، من بينهم نساء وأطفال وأطباء وممرضون وعمال إغاثة إنسانية وموظفون تابعون للأمم المتحدة وإعلاميون. عندما يتجرأ مسؤول دولي بالخروج عن الحد المسموح به في الحديث عن حرب الإبادة تشن إسرائيل حملة شعواء ضده وتوجه له تهمة معاداة السامية وخروجه عن الحياد وتبحث له عن مثالب وتلاحقه بكل أنواع التهم وتطالب باستقالته. وهذا غيض من فيض:

– تجرأ الأمين العام يوم 24 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقال إن أحداث 7 أكتوبر لم تأتِ من فراغ: "من المهم أن ندرك بأن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، لقد تعرض الشعب الفلسطيني لاحتلال خانق على مدار 56 عاما، ورأوا أراضيهم تلتهمها المستوطنات وتعاني العنف، خُنِقَ اقتصادُهم، ثم نزحوا عن أراضيهم، وهُدمت منازلهم، وتلاشت آمالهم في التوصل إلى حل سياسي لمحنتهم".

أقامت إسرائيل الدنيا على رأس الأمين العام وطالبه ممثل الكيان في الأمم المتحدة، جلعاد إردان، بالاستقالة وقال له: "في أي عالم أنت تعيش؟". منذ ذلك اليوم لم يكرر غوتيريش موضوع الخلفية التي أدت إلى 7 أكتوبر، وانساق مع موجة اعتبار أن تاريح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بدأ ذلك اليوم وأن ذلك الهجوم ألغى 100 عام من الصراع.

-تجرأ توم فليتشر، منسق الشؤون الإنسانية يوم 13 أيار/مايو 2025 وقال هذه الجملة مخاطبا أعضاء مجلس الأمن: "هل ستتحركون الآن – بحزم – لمنع الإبادة الجماعية وضمان احترام القانون الدولي الإنساني؟ أم ستقولون بدلًا من ذلك: لقد بذلنا كل ما في وسعنا". احتج ممثل الكيان الإسرائيلي وقدم شكوى رسمية ضد المسؤول الأممي وطالبه بالاعتذار علنًا على ما جاء في بيانه أمام مجلس الأمن. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت تقاريره وصفية أكثر بدون التطرق لموضوع الإبادة.

– تجرأت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بوصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية كاملة الأركان. فلم تبق تهمة في الدنيا إلا وجهت لها وخاصة تهمة "معاداة السامية". وعندما لم تتأثر بالحملة الشعواء ضدها اسستعان الكيان بالحليف المتصهين دونالد ترامب ففرض عقوبات على ألبانيزي تشمل منعها دخول الولايات المتحدة وتجميد حساباتها. وزير الخارجية ماركو روبيو وصف جهودها بأنها "غير شرعية ومخزية".

-تجرأ كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بمطالبة الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية يوم 20 أيار/مايو 2024 بإصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس وزراء الكيان، نتنياهو، ووزير دفاعه غالانت، وثلاثة قادة فلسطينيين (استشهدوا جميعا)، فقامت الدنيا على خان وتقدمت فتاة من المحكمة بتوجيه تهمة باطلة بأنه تحرش بها جنسيا. وكما جرت العادة يفتح ملف تحقيق في التهمة والذي يستغرق وقتا طويلا. وحسب القوانين الداخلية كل من توجه له تهمة، حتى لو أنها كذب واضح، يجب أن يجمد منصبه حتى نهاية التحقيق. وبالتالي توقف كريم خان عن ممارسة دوره كمدع عام. قامت الولايات المتحدة بفرض عقوبات قاسية على المحكمة وقضاتها وموظفيها، ما أرعبهم وألزمهم الصمت. بقيت المحكمة ودوائرها صامتة مع كل هذا الكم من الجرائم المريعة وعلى رأسها التجويع الذي يعتبر جريمة حرب بدون كلمة واحدة من المحكمة. المحكمة الآن "شاهد ما شافش حاجة"، لا صوت، لا بيان، لا ملاحقة، لا تحقيق، لا حضور.

-مورست الضغوط على محكمة العدل الدولية فانصاعت للضغوط الأمريكية الإسرائيلية ومنحت إسرائيل سنة إضافية للرد على شكوى جنوب أفريقيا بأن إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية. في 5 نيسان/أبريل 2024، حددت محكمة العدل الدولية موعدين نهائيين. أرادت استلام المذكرات، أي الحجج الكاملة المتعلقة بالقضية، من جنوب أفريقيا بحلول 28 تشرين الأول/أكتوبر 2024، والمذكرات المضادة من إسرائيل بحلول 28 تموز/يوليو2025.

بناءً على طلب إسرائيل، مدّدت المحكمة في 14 نيسان/أبريل 2025 مهلة تقديم المذكرات المضادة الإسرائيلية إلى 12 كانون الثاني/يناير 2026. ومن المرجح أن تُقدّم إسرائيل، في محاولة لتأخير الإجراءات، اعتراضات أولية، مثل التعامل مع اختصاص محكمة العدل الدولية للنظر في القضية. وسيكون أمام جنوب أفريقيا بعد ذلك بضعة أشهر للرد. ثم تُعقد جلسة استماع شفوية بشأن الاعتراضات الأولية، ربما في أواخر عام 2026 أوائل عام2027.

لم يعد عدد الضحايا الذين يسقطون يوميا خبرا مهما في المؤتمرات الصحافية في مقر المنظمة الدولية. يسقط ستون أو سبعون أو مئة ضحية خبر لا يستحق الذكر عند المسؤولين الأمميين. لكننا نجدهم يكررون التزوير والكذب والروايات الإسرائيلية المختلقة التي لا تنطلي على أحد. ودعني أضرب بعض الأمثلة كيف انزلق بعض مسؤولي الأمم المتحدة لتكرار الإفك الإسرائيلي:

-مهدي هادي، المنسق السابق للشؤون الإنسانية في فلسطين المحتلة، يردد كذبة سرقة 98 شاحنة من أصل 101 في كلمته في مجلس الأمن يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. فكيف يمكن لأي إنسان أن يصدق أن 98 شاحنة بسائقيها يمكن أن يختطفها مسلحون مع سائقيهم في غزة؟ أين سيختبئون؟ أين السائقون؟ كيف يمكن للإسرائيليين أن يتسامحوا مع المسلحين الذين يتجولون بحرية في غزة ويسمحون لهم بمهاجمة الشاحنات التي سُمح لها بالدخول بحمولتها. هل يوجد مكان في غزة يمكنك إخفاء شاحنة واحدة فيه؛ ناهيك عن 98؟

– اتهمت إسرائيل الأونروا بأنها مخترقة من حركة حماس وأن مئات الموظفين يتعاونون مع حركات المقاومة. وكانت التهمة تتحدث عن الآلاف ثم اختصر العدد لإثني عشر ثم إلى سبعة. تقبلت الأمم المتحدة التهمة وأنشأت فريقي تحقيق فورا مع المتهمين وأوقفت عقودهم. ولم تثبت التهمة إلا على واحد أو أثنين.

– أعلنت الأمم المتحدة مرارا وتكرارا أنها لن تتعامل مع "مؤسسة غزة الإنسانية" التي أنشأتها إسرائيل والولايات المتحدة وتحولت إلى مصيدة لقتل الفلسطينيين. لنكتشف مؤخرا أن هناك اجتماعات سرية بين كبار موظفي الأمم المتحدة ومسؤولي المؤسسة برعاية سفيرة الولايات المتحدة، دوروثي شيا. وقد اعترف المتحدث الرسمي باللقاء عندما أثارته "القدس العربي" في المؤتمر الصحافي اليومي حيث قال: "نعم. أؤكد أنه بدعوة من البعثة الدائمة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، حضرت بعض هيئات الأمم المتحدة وشركاء آخرون حوارا بشأن الوضع الإنساني المتردي في غزة، والذي عُقد يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي. وكان رئيس "مؤسسة غزة الإنسانية" حاضرًا بدعوة من الولايات المتحدة".

إلى هذا المستوى انحدرت الأمم المتحدة سواء في تهميش أعداد الضحايا أو ترداد السرديات الإسرائيلة المزورة أو التهيب والخوف من قول الحقيقة. فماذا بقي من مصداقية للمنظمة الدولية؟

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن