لطالما تغنّى العرب، باللغة الأم، وجمالها وثرائها، لما تحويه من معاني وبلاغة في الخطابة والتعبير أبقتها حيّة متميّزة يتوارثها الأجيال منذ الأزل، وقد بات الذين ينطقون بلسانها اليوم على مشارف النصف مليار نسمة.
أحبّ الشعراء لغتهم وتغزّلوا بجمالها، ونظموا فيها أشعارًا، فقال فيها أمير الشعراء أحمد شوقي: "إن الذي ملأ اللُغاتِ محاسنًا.. جعل الجمال وسرهُ في الضادِ".
مؤثرات كثيرة لعبت دورًا في تبدّل معالم اللهجة المحكية، أبرزها مصطلحات دخيلة فرضتها "لغة الإستعمار"
لكنّ حب العرب للغتهم الواحدة، لم يمنع تحدّثهم بلهجات مختلفة، والمقصود هنا اللهجة العاميّة أو المحكية، وهو لسان حال ملايين العرب، الّذين لا يتمكّن عدد منهم من التحدّث باللغة العربية الفصحى، كونهم أصبحوا لا يستخدمونها إلّا عند الضرورة واللزوم، فضلًا عن تقصير متراكم على مستوى التربية والتنشئة المجتمعية والتعليمية، ساهم في تراجع دور اللغة الفصحى ومكانتها بين الأجيال العربية الناشئة.
مؤثرات كثيرة، لعبت دورًا مهمًا في تبدّل معالم اللهجة المحكية، أبرزها تراجع إستخدام اللغة العربية، لصالح مصطلحات دخيلة فرضتها "لغة الإستعمار" في بعض الدول العربية، كونها كانت تحت وصاية المستعمر، سواءً كان فرنسيًا أو إنكليزيًا أو عثمانيًا، وصولًا إلى التأثيرات الثقافيّة الأخرى التي غيّرت بلسان الشعوب العربية، خصوصًا في عصر التواصل الإلكتروني والسوشيال ميديا.
تولّدت في اللغة العربية لهجات متعددة قد تكون متقاربة أو مختلفة بشكل جذري
إلّا أن أصل هذه اللهجات المحكية قديم جدًا، تطوّر عبر قرون من الزمن، حتى صار على ما هو عليه اليوم في الزمن المعاصر من لهجة خليجية، ومغربية، ومصرية ولهجة بلاد الشام..، وتميّزت اللهجات بين الدول، بتبدّل حروف، أو إضافة حرف زائد، بين مكان وآخر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مما يشاع بين المصريين نطق حرف الجيم في مصر كلفظ "الجنيه" مثلما ينطق حرف "g" في إسم "Gabriel"، بينما يٌستبدل الحرف نفسه، أيّ الجيم، بـ"ياء" في الكويت، وهذا الإستعمال العامّي نجد له شبيهًا في دول خليجية أخرى.
وهكذا تولّدت في اللغة العربية لهجات متعدّدة، قد تكون متقاربة أو مختلفة بشكل جذري، يصل في بعض الأحيان حدّ عدم فهم المقصود في الحديث بين الأفراد من دولتين عربيتين مختلفتين. إذ إنّ فهم بعض اللهجات ليس بالأمر الهيّن على أبناء بعض الدول العربية، ويزداد الأمر صعوبة في بعضها وكأنها ذات ثقافة مختلفة حتى عن أقربها إليها جغرافيًا.
يتحدث أهل الخليج لهجات متشابهة، في السعودية والإمارات وقطر والكويت، وتتلاقى مع اللهجات اليمنية وبدو الأردن. ولبلاد الشام، لهجة سهلة وبسيطة، تختلف في بعض التفاصيل، لكنها متقاربة جدًا، في لبنان وسوريا وفلسطين. أما اللهجة المصرية، فلها نكهتها ونغمتها الخاصة، وكان للسينما المصرية الدور الكبير في انتشارها وفهمها بين سائر العرب.
اللهجات تشهد إختلافًا بين المناطق داخل كل دولة
أما المغرب العربي، فاللهجة أصعب، من حيث القدرة على فهم مفرداتها لدى باقي الشعوب العربية، حيث يتجلى اختلاف اللهجات بشكل كبير هناك، إضافةً إلى المزيج الطاغي عمومًا، بين اللغتين العربية والفرنسية في الحديث العامي داخل دول المغرب العربي.
علمًا أن اللهجات داخل كل دولة من هذه الدول، تشهد إختلافًا بين المناطق أيضًا، في مساحة جغرافية واحدة، مثلاً بين المدينة والأطراف، وهذا ما هو حاصل على سبيل المثال في مصر، على مستوى اختلاف اللهجة المستخدمة بين المناطق الداخلية والصعيد.
وتتبدّل طريقة نطق بعض الألفاظ والحروف في لبنان مثلًا أيضًا، فتجد قرى الجنوب والشمال والبقاع اللبناني يقلبون حرف القاف إلى ألف، مثل تحويل كلمة (قرطاسية إلى أرطاسية) وكذلك القدس ونابلس والخليل في فلسطين أيضًا، بينما تنطقها مناطق أخرى بالقاف.
ورغم أن الإختلاف الحاصل في اللهجات يُغني الثقافات العربية، إلّا أن اللهجات المحكية، تقف أحياناً كثيرة، حاجزًا بين المجتمعات العربية أنفسها، كون بعض العرب لا يفقه معنى ما يقوله البعض الآخر منهم، رغم أن جميعهم بالأصل يتحدث اللغة الأم عينها. حتى أن اللهجة، في سياقات وظروف معينة، تكون سببًا للتحيّز لمنطقة دون سواها، ولشخص دون غيره.
التمييز مرفوض على أساس اللهجة واللكنة والتفرّد باستخدام العبارات
وقد تكوّن اللهجة عند بعض الأشخاص، إنطباعًا عن الآخرين، وتحدد كيفية التعاطي والتعامل معهم، هذا غير حفنة الأحكام التي يتمّ إسقاطها على الشخص المقصود، مثل تمييزه (على أنه مختلف)، كأن يقال إنّ هذا الشخص مثقف، متمدّن أو جاهل، إنطلاقًا من لهجته، الفلاحية أو القروية أو المدنية، وهذا ما يأخذ منحى عنصريًا بعض الشيء.
إذ إنّ التمييز مرفوض على أساس اللهجة واللكنة والتفرّد باستخدام العبارات، حتى ولو وصل إلى حد صعوبة الفهم لدى البعض الآخر، فهو لا يُلغي في نهاية المطاف تشارك جميع الدول العربية اللغة والهوية نفسها، والأساس في التعريف عن العرب والدلالة على هويتهم.
وحتى لو قصّر العرب، حين عزف أبناؤهم عن إستخدام لُغتهم الأم في مجتمعاتهم، عن قصد أو غير قصد، أو ربما تماشيًا مع الثقافات الغربية، تبقى اللغة العربية حجز الزاوية في تكوين الهوية الجامعة لكلّ العرب... على اختلاف لهجاتهم.
(خاص "عروبة 22")