اقتصاد ومال

القدرات الصناعيّة في الوطن العربي: من الاقتصاد الريعي إلى الإنتاجي!

لا يزال الطابع الريعي والاستهلاكي يُهيمن على الجانب الأكبر من مقوّمات الاقتصادات العربية، وهو ما أبقى قدرة هذه الاقتصادات على خلق فرص عمل، خاصةً للشباب، محدودةً للغاية.

القدرات الصناعيّة في الوطن العربي: من الاقتصاد الريعي إلى الإنتاجي!

تشير بيانات "الإسكوا" إلى أنّ القيمة المُضافة للتصنيع في النّاتج المحلي العربي بلغت نحو 10,3% في عام 2022، مقارنةً بمتوسطٍ عالميّ يُقارب 16,7%، وهو فارق يعكس الفجوة الهيكليّة بين اقتصادات المنطقة والاقتصادات الصناعية المتقدّمة. في المقابل، تُشير بيانات "منظمة العمل الدولية" إلى أنّ معدّل بطالة الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد سجّل نحو 24,5% في 2024، وهو المعدّل الأعلى عالميًا، مع بقاء البطالة الإجماليّة عند مستوى 9,8%، الأمر الذي يؤكّد الحاجة الماسّة إلى نموذج نموٍّ قادرٍ على الاستيعاب التشغيلي الواسع، وهو ما يمكن أن يقدّمه التحوّل نحو التصنيع.

الاقتصاد الريعي، الذي يقوم على تصدير المواد الخام أو تقديم الخدمات ذات القيمة المُضافة المحدودة، قد يخلق عوائدَ ماليةً سريعةً، لكنّه لا يوفّر استدامةً في النموّ والتشغيل ولا يحفّز الابتكار ولا يعزّز من تنافسية الاقتصاد إلّا بشكلٍ محدود. أمّا الاقتصاد الإنتاجي الصناعي، فبنيته قائمة على تحويل المواد الأولية إلى منتجات، وتطوير سلاسل القيمة، وخلق تشابكات أمامية وخلفيّة مع قطاعات الاقتصاد المختلفة، ما يضاعف أثره التشغيلي. وتوضح دراسة حديثة لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو - UNIDO) أنّ كل وظيفة مباشرة في الصناعة التحويلية تولّد، في المتوسط، 2,2 وظيفة إضافية في قطاعات أخرى، وهو ما يفسّر إقبال الدول الصاعدة على تعزيز حصّتها التصنيعيّة ضمن استراتيجياتها التنمويّة.

رفع حصّة التصنيع العربي يتطلّب الاستثمار في التدريب المهني وتطوير البنية التحتية وتشجيع التكامل الإنتاجي

في هذا السّياق، برزت تجارب دولية وعربية تؤكّد أنّ التحوّل الصناعي ممكنٌ، وأنّه ليس حكرًا على الاقتصادات ذات التاريخ الصناعي العريق، بل يمكن إنجازه عبر رؤيةٍ واضحةٍ وسياساتٍ متماسكة. فقد تمكّن المغرب، خلال عقدَيْن فقط، من أن يُصبح أكبر منتج سياراتٍ في قارة أفريقيا بطاقةٍ سنويةٍ تقارب 700 ألف سيارة، وبقيمة صادراتٍ بلغت نحو 14 مليار دولار في عام 2023، مع استثمارٍ متنامٍ في المركبات الكهربائية وبناء مصنع بطاريات ضخم في القنيطرة بتكلفةٍ ناهزت 1,3 مليار دولار، من المقرّر أن يبدأ الإنتاج تدريجيًا عام 2026.

وفي الخليج العربي، أطلقت السعودية في عام 2022 استراتيجيّتها الوطنية للصناعة بهدف توطين سلاسل الإمداد وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج الإجمالي، والوصول إلى نحو 36 ألف مصنع بحلول عام 2035 تحت مظلّة رؤية 2030. بينما تتبنّى الإمارات مبادرة "300 مليار" لمضاعفة مساهمة القطاع الصناعي غير النفطي إلى 300 مليار درهم بحلول 2031، مع تمويل وحوافز تُركّز على التصنيع عالي التقنية والمحتوى المحلّي.

استقطاب الاستثمارات النوعية في الصناعات الخضراء سيُتيح للمنطقة الاستفادة من الطلب العالمي المتنامي

أمّا على الصعيد الآسيوي، فتقدّم فيتنام نموذجًا مُلْهِمًا، إذ راكمت رصيدًا من الاستثمار الأجنبي المباشر يفوق 270 مليار دولار حتّى عام 2022، غالبيته موجّه إلى الصناعات التحويلية، مستندةً إلى مناطق صناعية تنافسية، واتفاقات تجارة واسعة، وقوة عمل مُدرّبة. وتُوازيها تجربة الصين في إطار خطتها الشهيرة "صُنع في الصين 2025"، التي أُطلقت عام 2015 كخطةٍ عشريةٍ تهدف إلى نقل الاقتصاد الصيني من مرحلة الإنتاج الكمّي منخفض التكلفة، إلى مرحلة الإنتاج عالي الجودة والتقنية، عبر تطوير عشر صناعات استراتيجية تشمل الروبوت، والطيران، والمركبات العاملة بالطاقة الجديدة، والمواد المتقدّمة، والأجهزة الطبية الدقيقة... وقد تمكّنت تلك الاستراتيجية من دفع الصين لتكون رائدةً عالميًا في قطاعاتٍ عدّةٍ، مع مضاعفة القيمة المُضافة الصناعية وتعزيز المكوّن والابتكار المحلّيَيْن.

وإذ يملك العالم العربي من المقوّمات والمزايا المتكاملة ما يسمح له بأن يضع رؤيةً وسياساتٍ صناعيةً - تجاريةً مشتركةً، فإنّه يستلهم من التجارب الدولية ما كان منها للدول الكبرى (جغرافيًا وسكانيًا) وما كان من تجارب دول صغيرة ومتوسطة، يمكن تبنّيه على مستوى قُطري أقلّ اتساعًا. إنّ تعظيم الاستفادة من تلك التجارب في السياق العربي، يستدعي وضع سياسة صناعية إقليمية انتقائية تحدّد الأولويات القطاعية، مع استهداف رفع حصّة التصنيع العربي إلى ما بين 15% و20% من النّاتج خلال سبع إلى عشر سنوات، وهو ما يتطلّب الاستثمار الكثيف في التدريب المهني، وربطه بعقود تشغيل داخل المناطق الصناعية، وتطوير البنية التحتية الصناعية لتصبح أكثر استدامةً في استهلاك الطاقة والمياه وتوفير بدائل الخدمات المشتركة للمصانع ومعالجة المياه... فضلًا عن تشجيع التكامل الإنتاجي بين الدول العربية لتوزيع أنصبة وحصص القيمة المُضافة بما يُخفّض التكلفة ويزيد التنافسيّة. كما أنّ استقطاب الاستثمارات النوعية في الصناعات الخضراء، مثل مكوّنات البطاريات والطاقة المُتجدّدة، سيُتيح للمنطقة الاستفادة من الطلب العالمي المتنامي، تمامًا كما فعل المغرب بدخوله مُبكّرًا في سلسلة قيمة المركبات الكهربائية.

التصنيع دعامة للأمن الاقتصادي والقومي وينقل الوطن العربي إلى موقع المنتج المؤثّر في حركة الاقتصاد العالمي

إذا طُبّق هذا التحوّل الصناعي، في إطار رؤيةٍ محكمةٍ وخططٍ مدروسةٍ، فسيؤدّي إلى توليد ملايين فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وتعزيز استدامة موازين التجارة العربية من خلال تنمية الصادرات عالية القيمة المُضافة، وتعزيز قدرة الاقتصادات على الصمود أمام تقلّبات أسعار الموارد الأولية وأسعار الصرف الأجنبي.

إنّ التصنيع ليس مجرّد خيار للتنمية، بل هو دعامة للأمن الاقتصادي والقومي، إذ يضع الشباب في صدارة العملية الإنتاجية، ويُمكّن الوطن العربي من الانتقال من دور المستهلك إلى موقع المنتج الفاعل والمؤثّر في حركة الاقتصاد العالمي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن