قد يبدو أنه لا علاقة بين المشهدين بيد أنهما وثيقا الصلة ببعضهما البعض، ففي الحالتين سوف يجد المتأمل والباحث في عمق المشهدين وخلفياتهما أنّ الغرب الأطلسي، وتحالفاته، المسؤول الأول – تاريخيًا - عن سلوك المحتل الصهيوني، الاستيطاني، العنصري، والإبادي.. إلخ، بالدعم المالي والعسكري والصمت والتواطؤ والمناورات الأممية، بيد التشكيلات العصابية الصهيونية قبل 1948 أولًا، ودولة الاحتلال ثانيًا من 1948 إلى يومنا هذا، من جهة، كذلك هو المتورط الأول: دولًا وشركات؛ في أن تعيش البشرية زمن التدهور المناخي Climate Change Deterioration Era؛ بفعل الرغبة الجامحة للرأسمالية العالمية في تعظيم أرباحها دونما النظر لأية اعتبارات، وذلك من خلال الاستنزاف المجنون المستمر للثروات والموارد والإنهاك المتواصل للطبيعة والبيئة.
والمحصلة أننا بتنا أمام "جرنيكاتين"؛ نسبةً للوحة بيكاسو الشهيرة التي جسّد وخلّد فيها الآثار المدمّرة للحرب الأهلية الإسبانية، حيّتان، الأولى: "جرنيكا" إبادة البشر وتسوية الحجر بالأرض والحيلولة دون مد الخدمات الإنسانية لمواطني غزّة، والثانية: "جرنيكا" كارثية تتمثّل في التجريف، والحرائق واسعة النطاق والجفاف، والاحترار الذي يؤدي إلى الغرق وتزايد الانبعاثات الضارة والتصحّر.. إلخ.
نظام اقتصادي جائر تسبّب في أن تظلّ القضية الفلسطينية عالقة والمسألة المناخية رهينة المصالح الرأسمالية الشرهة
وفي مواجهة الوضعيتين "الجرنيكيتين"؛ فإننا نجد "جرنيكا فلسطين" تواجه بمنح الغرب الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مباركته للمحتل الصهيوني في أحقيته أن يمارس تطهيرًا للأرض الفلسطينية من أصحابها. صحيح أنّ هناك "حلحلة" في المواقف من قبل بعض دول الحلف الأطلسي إلا أنها لا ترقى إلى الحد الذي يوقف المأساة الوحشية المتصاعدة التي يتعرّض لها الفلسطينيون على مدى 75 سنة وإعمال قدر من الإنصاف الواجب حيالهم.
أما بالنسبة لـ"جرنيكا المناخ والبيئة"، فسوف نجد الدول الصناعية الكبرى تمارس سلوكًا مشابهًا يتمثّل في التهرّب من الوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها منذ اتفاق باريس 2015 ماليًا وتقنيًا، بل وتمعن في المزيد من إنضاب الطبيعة. صحيح أنّ هناك وعودًا جديدة ولكن السلوك التوسّعي الإمبريالي الغربي الأطلسي الجديد لم يزل قائمًا خاصة مع صعود ما أطلقنا عليه، مرة، الشرق الجديد الصاعد: الصين وروسيا والهند.
إنّ المشهدين الحاليين، أي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والتدهور المناخي، ما هما إلا نتاج لعجز المنظومة الدولية بمؤسساتها التنموية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في إقامة العدالة والسلم والتنمية المستدامة على المستوى العالمي عامة، وفي بؤر الصراع دائمة الاحتقان خاصة في الشرق الأوسط.
عجز سببه نظام اقتصادي جائر تسبّب، من ضمن ما تسبّب، في أن تظلّ القضية الفلسطينية عالقة، ما عرّضها للتذويب والتهميش في العقدين الأخيرين. ومن ثم تقديم حلول لا تمس جوهر الإشكالية في أننا نواجه نظامًا احتلاليًا وعنصريًا وأنّ هناك أرضًا منهوبة وحقوقًا فلسطينية مسلوبة مثل حق العودة، وعروبة القدس وتعدّديتها.. إلخ.
كذلك في أن تظلّ المسألة المناخية - البيئية رهينة المصالح الرأسمالية الشرهة وإبقاء الحديث عنها في الإطار التقني/الفني دون الالتفات إلى جذر تشكّلها وما ترتّب عليه من تداعيات مدمّرة على مستقبل الكوكب ومواطنيه.
نحن أمام مشهد لـ"استئصال" فلسطين من الخريطة ومشهد لـ"استئثار مستدام" للثروات والموارد
بلغة أخرى، آن الأوان لإدراك أنّ الأصل في غرس إسرائيل في المنطقة يرجع إلى المخططات الاستعمارية المعقّدة عقب الحرب العالمية الأولى ومصالحها الاقتصادية واعتمادها على إسرائيل كرأس حربة لهذه المخططات، ومن ثم كان الوعد المشؤوم في 1917، فالنكبة في 1948. وما أطلق عليه "صفقة القرن"؛ أو ما نراه في الواقع سلام النخبة الثروية؛ الذي نعدّه تتويجًا للمصالح الاقتصادية العالمية وامتداداتها في المنطقة على حساب الحقوق الأصيلة لجمهور الفلسطينيين. كذلك آن الأوان لفهم جوهر المسألة البيئية والمناخية وأنها ناجمة عن خيار اقتصادي أودى إلى لا مساواة غير مسبوقة بين القلّة الثروية والأغلبية من المواطنين، إضافة إلى تهديدات حقيقية على صحة وتنمية مواطني الكوكب ونضارته.
إذن، نحن أمام مشهد لـ"استئصال" فلسطين من الخريطة يمكن للمرء أن يلمسه بوضوح مع عدم تجدّد أيام الهدنة ومعاودة تدمير غزّة تحت دعاوى زائفة، وتجدّد الحديث حول إزاحة الفلسطينيين إلى دول الجوار. كذلك أمام مشهد لـ"استئثار مستدام" للثروات والموارد على حساب مستقبل الكوكب ومواطنيه، ما عكسته الخلافات حول استخدام الطاقة الأحفورية.
وبعد، هناك حاجة إلى مقاومة بؤس المشهدين؛ تفكيك بنية الظلم بمستوياتها المتعدّدة التي تحاصر الفلسطينيين بالنسبة للمشهد الأول، والعمل على تأسيس نظام اقتصادي جديد أكثر عدلًا يواكبه نظام طاقة جديد. وفي الحالتين أظن أنه باتت هناك حاجة لبناء منظومة دولية أكثر قدرة.
إنها لحظة وجودية فارقة في الإقليم والكوكب.
(خاص "عروبة 22")