تقدير موقف

العمالة الفلسطينية في الكيان الصهيوني: ضرورة "فكّ الروابط"من الاستعباد والطرد.. إلى الاستيعاب الوطني

تعرّضت العمالة الفلسطينية من قطاع غزّة، والتي كانت تعمل في الكيان الصهيوني قبل بدء عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري، لعمليات اعتقال وإهانة وتعذيب وطرد شاملة بعد بدء تلك العملية، وتم إلغاء تصاريح العمل في الكيان الصهيوني لـ18,2 ألف عامل من القطاع.

العمالة الفلسطينية في الكيان الصهيوني: ضرورة

هذا السلوك الصهيوني المتكرر كليًا أو جزئيًا عند حدوث أي انتفاضة أو انفجار أزمة كبرى مع الشعب الفلسطيني، يفرض طرح القضية بغرض معالجتها بصورة وطنية وقومية تنهي هذه المهانة. ويتم تحميل العمالة الفلسطينية في الكيان الصهيوني ومستدمراته بالأعمال الشاقة في قطاعَي البناء والزراعة اللذين يستوعبان أكثر من 120 ألفًا من مجموع العاملين الفلسطينيين في الكيان الصهيوني والبالغ إجماليهم 173 ألف عامل تقريبًا.

وتتوزّع العمالة الفلسطينية الباقية في ذلك الكيان في الخدمات عمومًا، وبخاصة خدمات النظافة والتمريض المنزلي والصناعات المرهقة بدنيًا والتي تنطوي على مخاطر صحية في المحاجر والمنسوجات والكيماويات.

"فك الروابط" أو المساواة في سوق العمل 

ترتبط معالجة هذه القضية بمسار حل القضية الفلسطينية بأسرها، فلو مضت الأمور في اتجاه "حلّ الدولتين" عند حدود ما قبل عدوان عام 1967 بغض النظر عن الموقف من هذا الحل، فإنّ المعالجة ينبغي أن تكون في مسار "فك الروابط" في مجال العمالة وإنهاء الاستعباد عند الكيان الصهيوني العدواني في مجال التشغيل بإيجاد فرص للعمل في الضفّة وغزّة والقدس، أو في أسوأ الأحوال في بلدان عربية مستورِدة لخدمات العمالة مثل دول الخليج.

ويبلغ دخل العمالة الفلسطينية في الكيان الصهيوني نحو ربع الناتج في الاقتصاد الفلسطيني، وبالتالي فإنّ تعويضه بفرص عمل جديدة تؤدي لتخليق دخل مناظر هو أمر في غاية الأهمية.

النخبة الحاكمة في الكيان الصهيوني تريد استمرار استعباد الشعب الفلسطيني في أراضيه المحتلّة

أما إذا مضت الأمور في اتجاه حل يقوم على دولة واحدة من البحر إلى النهر لكل مواطنيها على قدم المساواة، فإنّ المعالجة ينبغي أن تتركّز في تحقيق العدالة والمساواة في سوق العمل.

ونظرًا لأنّ هذا الحل الأخير يعني إنهاء يهودية وصهيونية الدولة في بلد أصبح العرب المقيمون فيه فعليًا أغلبية السكان منذ عام 2017، وهي أغلبية يمكن أن تتضاعف في حالة عودة من شرّدهم الإرهاب الصهيوني منذ حرب الاغتصاب وحتى الآن، فإنّ النخبة الحاكمة في الكيان الصهيوني ستقاوم هذا الحل بضراوة تفوق بأضعاف مضاعفة مقاومتها لـ"حل الدولتين" الذي يبدو بدوره كتجرّع السم بالنسبة لتلك النخبة التي تريد استمرار الحال على ما هو عليه من احتلال واستحواذ وتحكّم واستعباد للشعب الفلسطيني في أراضيه المحتلّة.

وبناءً على ما سبق، فإنّ الحلّ المرحلي الأكثر واقعية هو العمل على "فك الروابط" الفلسطينية مع اقتصاد الكيان الصهيوني في مجال العمالة.

لكن تحقيق هذا الأمر يتطلّب ضرورة توفير فرص عمل لنحو 173 ألف عامل فلسطيني من الضفّة والقدس وغزّة يعملون فى الكيان الصهيوني، إضافةً إلى 370 ألف فرصة عمل أخرى للعمّال الفلسطينيين الذين يعانون من البطالة في ظلّ المعدل المرتفع للبطالة البالغ 27,6% من قوة العمل البالغ تعدادها 1,338 مليون عام 2021.

وهذا يعني أنّ فرص العمل المطلوب توفيرها في حدود 543 ألف فرصة عمل جديدة. وفي كل عام جديد من المفترض أن يتمّ خلق فرص عمل إضافية لصافي الداخلين الجدد لسوق العمل الفلسطيني.

خيارات "فك الروابط" بين الشتات والاستيعاب 

هناك خياران مطروحان لفك روابط الاقتصاد الفلسطيني مع اقتصاد الكيان الصهيوني ومعالجة آثاره فى مجال العمالة: الأول هو إرسال العمالة الفلسطينية إلى الدول العربية المستورِدة لخدمات قوة العمل. وبغض النظر عن استعداد تلك الدول لاستقبال تلك العمالة، فإنّ هذا الخيار سلبي من زاوية ضرورات بناء الدولة الفلسطينية وبناء اقتصادها الذي يُعد ركيزة أساسية في قوّتها الشاملة، لأنه يعني إرسال المزيد من أبناء الشعب الفلسطيني إلى الشتات، في حين أنّ ضرورات الاستقلال الفلسطيني تتطلّب بقاءهم في أرضهم والمشاركة في النضال من أجل الاستقلال بكافة الأشكال بما فيها العمل على بناء اقتصاد فلسطيني قوي.

أما الخيار الثاني؛ فهو تمويل بناء مشروعات صناعية وزراعية وخدمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لاستيعاب العمالة الفلسطينية التي كانت تتوجّه للعمل في الكيان الصهيوني، وأيضًا لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل الفلسطيني ولامتصاص البطالة الكبيرة بين أبناء الشعب الفلسطيني.

تمويل بناء مشروعات صناعية وزراعية وخدمية من خلال صندوق عربي تتوجّه استثماراته إلى غزّة والضفّة والقدس

وهذا الخيار هو الأصعب لأنه يطرح السؤال الخاص بكيفية تمويل بناء تلك المشروعات، وكيفية حمايتها من قوة التدمير الصهيونية الهمجية، لكنه في الوقت نفسه هو الخيار الذي يمكن أن يساهم في بناء الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني عن الكيان الصهيوني.

ولن يتحقق هذا الخيار إلا من خلال ضخ الاستثمارات بشكل منظم ومن خلال صندوق عربي مخصّص لهذا الغرض، حتى على غرار تخصيص دولة الإمارات 10 مليارات دولار للاستثمار في الكيان الصهيوني!

وتتوجه استثمارات ذلك الصندوق المقترح والذي من المفترض أن تدعو إليه وتحتضنه الجامعة العربية، إلى قطاع غزّة والضفّة الغربية والقدس وبخاصة في الصناعات العادية والعالية التقنية، والخدمات الإنتاجية والاجتماعية، والزراعات العادية والمحمية، وتنقية مياه الصرف وتحلية مياه البحر لاستخدامها في الزراعة والصناعة والخدمات.

وللعلم فإنّ الحكومات الخليجية تملك صناديق سيادية توظف تريليونات الدولارات في المنافي الأوروبية والأمريكية والآسيوية وحتى الصهيونية بكل أسف. كذلك فإنّ رجال الأعمال الفلسطينيين الموجودين خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك رجال الأعمال العرب مدعوين للمشاركة في تلك المهمة الوطنية والقومية وغالبيتها ستتم على أسس اقتصادية مفيدة لطرفيها.

الصناعات الصغيرة والشركاء الأجانب 

رغم أنّ اعتداءات الكيان الصهيوني المستمرة على الأرض والشعب والممتلكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، تُسبّب الكثير من الأذى والدمار للاستثمارات الفلسطينية في تلك الأراضي، إلا أنه ليس هناك مناص من الاستمرار فيها وزيادتها وبناء موقف دولي واستصدار قرارات دولية في هذا الشأن يمكن أن تساعد على حمايتها وإجباره على تعويض أية أضرار يُسبّبها لها.

كما تكتسب تلك المشروعات حماية نسبية لو تم بناؤها بالمشاركة مع رجال أعمال أوروبيين أو أمريكيين أو صينيين ممن ترتبط بلدانهم بمصالح واسعة النطاق مع الكيان الصهيوني بشكل يؤدي لتقييد همجيّته في التعامل مع مشروعات يشاركون فيها.

ينبغي أن تتركّز مشروعات صناعية صغيرة ومتوسّطة في الضفّة وغزّة والقدس وأن تكون متفرّقة ومتداخلة مع الكتلة السكانية

كما أنّ التأمين على المشروعات الاستثمارية لدى مؤسسات تأمين أمريكية وأوروبية وصينية يمكن أن يغطي أو يقلّل من خسائر المستثمرين في حالة استهداف مشروعاتهم من الكيان الصهيوني. وإذا كانت هناك أية صعوبات في التأمين على تلك المشروعات فإن من واجب الجامعة العربية أن تدعو الدول الثرية الأعضاء فيها لتأسيس صندوق خاص للتأمين على تلك المشروعات، خاصة وأنّ جزءًا مهمًا من تلك المشروعات من المفترض أن يعود لتلك الدول ومستثمريها.

وينبغي أن تتركّز المشروعات الصناعية التي من المفترض إقامتها في الضفّة وغزّة والقدس في عدد كبير من المشروعات الصغيرة والمتوسّطة على أقصى تقدير في مجالات البرمجة وأجزاء الكومبيوتر والصناعات الغذائية والزراعية والسمكية والحيوانية، والصناعات الكيماوية واليدوية والورش الحرفية المختلفة.

وينبغي أن تكون تلك المشروعات عبارة عن وحدات متناثرة ومتفرّقة ومتداخلة كليًا كلّما أمكن بيئيًا وصحيًا، مع الكتلة السكانية بشكل يضع قيودًا على استهدافها. وتلك البعثرة تشكّل مصدرًا لنوع من المنعة المرتبطة بحرمة المناطق السكنية رغم الإجرام الصهيوني في استهداف تلك المناطق بصورة همجية في الحرب الراهنة على قطاع غزّة.

كما أنّ استهداف المشروعات الصغيرة والمتوسطة المبعثرة وسط الكتلة السكانية يكون مرتفع الكلفة عسكريًا واقتصاديًا مقارنةً بقيمتها، فضلًا عن أنه يستنهض مواقف دولية رافضة لمثل تلك الاعتداءات.

وقد تكفّلت الاعتداءات الصهيونية على المناطق السكينة والمقتلة المروعة للأطفال والنساء والمدنيين في الحرب الراهنة على قطاع غزّة، بقلب الرأي العام العالمي ضد ذلك الكيان الذي مُني بأكبر خسارة معنوية بافتضاح فاشيّته وإجرامه وهمجيّته.

الاستزراع السمكي والصناعات المرتبطة به

بما أنّ قطاع غزّة هو شريط ضيّق ممتد على ساحل البحر، فإنه يجب النظر إلى مشروع الاستزراع السمكي واسع النطاق في البحر المفتوح في ساحل غزّة على أنه مسار رئيسي للتحوّل الاقتصادي الاستراتيجي في القطاع، فمثل هذا الاستزراع السمكي وما يرتبط به من صناعات للمعدات الضرورية لتلك المزارع، ومن مشروعات للتجهيز والتعليب والتسويق الداخلي والخارجي يمكن أن تجعل من القطاع مركزًا إقليميًا ودوليًا لإنتاج وتصدير الأسماك، وتجعل من هذا القطاع محرّكًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي.

يمكن تنفيذ مشروعات الاستزراع السمكي والتجهيز والتعليب مع شركاء دوليين لتقييد الاعتداءات الصهيونية عليها

كما أنّ تلك المشروعات سوف تخلق أعدادًا كبيرة من فرص العمل الدائمة للصيادين وللعاملين في مشروعات الاستزراع والتجهيز والتعليب والتسويق وتصنيع المعدات اللازمة له. ويمكن تنفيذ تلك المشروعات مع شركاء دوليين من أوروبا والصين والولايات المتحدة لتقييد الاعتداءات الصهيونية عليها. وهؤلاء الشركاء الدوليون سيقومون بالتمويل والإمداد بالمعدات والخبرات.

وتعد الصين من أكثر بلدان العالم التي لديها خبرات متميّزة في هذا المجال والتي يمكن التعاون معها، حيث يبلغ إنتاجها من المزارع السمكية نحو 14,4 مليون طن تضعها في صدارة دول العالم في هذا المجال وفقًا لبيانات منظمة الفاو.

كما أنّ مثل هذا الاستزراع لن يصطدم بالقيود الصهيونية التي تحدّد 6 أميال بحرية فقط للصيد، فما تحتاجه تلك المزارع سيكون في حدود ميل واحد فقط أو ميلين كحد أقصى. 

في كل الأحوال وأيًا كانت خيارات حل القضية الفلسطينية، فلا بد من السعي الحثيث لإنهاء استعباد ومهانة العمالة الفلسطينية في الكيان الصهيوني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن