لا يُعرف لماذا لا يعطي الحُكم الانتقالي الجديد هذا الملف الاهتمام الكافي، هل بسبب قلّة الإمكانيات وكثرة الأعباء، أم أنّ الوضع الديموغرافي الحالي الذي غيّر تركيبة البلاد السكانية جرّاء تراجع نسب العرب السُنّة (كانت نسبتهم تدور حول 65% من السكان قبل الأزمة)، والذي ينتمي إليهم معظم اللاجئين، يوفّر للحُكم الجديد مبرّرًا لإطالة المرحلة الانتقالية وعدم إجراء انتخابات عامّة ورئاسية بحجّة عدم التوازن الديموغرافي في البلاد.
وتعدّ أزمة اللاجئين السوريين إحدى أكبر أزمات اللّاجئين في العالم، فمنذ عام 2011، فرّ أكثر من 14 مليون سوري من ديارهم، ولجأوا إلى الخارج أو نزحوا داخليًا، وهؤلاء كانوا يمثّلون نحو نصف سكان البلاد عام 2020، ويُعتقد أنّ نسبتهم زادت مع استمرار الهجرة.
يُـمثّـل اللاجئون خارج سوريا نحو 30% من سكان البلاد
وفي مارس/آذار 2025 ذكرت "المنظمة الدولية للهجرة" أنّه ما زال هناك حوالى سبعة ملايين نازح داخل سوريا، أمّا إجمالي السوريين في الخارج (لاجئين ومهاجرين غير مسجلين) فيُقدّرون بنحو 8.5 ملايين شخص حتى عام 2020، من بينهم أبناء الجيل الثاني، وأغلبهم يقيمون في البلاد المجاورة (أكثر من 5 ملايين لاجئ)، ويُمثل اللاجئون خارج سوريا نحو 30% من سكان البلاد من بينهم 2.2 مليون لاجئ غير مسجّل.
ويُعتقد أن العدد الواقعي لإجمالي المهاجرين السوريين أكبر بكثير، فدولة مثل مصر مسجّل لديها نحو 139 ألف لاجئ سوري، بينما يشير بعض التقديرات إلى استضافتها لنحو مليون ونصف سوري. كما أنّ سوريا شهدت في السنوات الأخيرة، عقب تراجع حدّة النزاع، هجرةً واسعةً لأسبابٍ اقتصاديةٍ أو هربًا من التجنيد، توجّهت بشكل كبير إلى دول الخليج، وعلى الرَّغم من أنّها ضمّت نسبةً كبيرةً من الشباب، لكنّها ضمّت أيضًا أعدادًا من الأُسَر وحتى النساء.
ومنذ كانون الثاني/يناير 2024، سجّلت المنظمة الدولية للهجرة عودة أكثر من 1.3 مليون نازح داخلي ونحو 730 ألف سوري من الخارج، حسب موقع "أخبار الأمم المتحدة". ويُظهر ذلك أنّ نسبة العائدين من إجمالي اللاجئين المقيمين خارج البلاد تُقدّر بنحو 8% فقط.
وبدأت بعض الحكومات لا سيما الأوروبية منها، فرض بعض القيود على السوريين ولا سيما طالبي اللجوء الذين لم يُبتّ بأمرهم، كما أوقفت إجراءات لمّ الشمل.
وفي ألمانيا التي تستضيف أكبر جالية سورية في أوروبا، قال المتحدث باسم الداخلية الألمانية إنّ الوزارة تناقش مع الحكومة الانتقالية السورية الترتيبات المتعلّقة بإعادة اللاجئين، إذ تشمل المفاوضات مصير نحو 974 ألف لاجئ يعيشون في ألمانيا.
وسبق أن قالت وزيرة الداخلية الألمانية إنّ بعض السوريين قد يضطرّون للعودة إلى بلادهم وفق شروط معينة، لا سيما من يحملون وضع الحماية الفرعية، وهم أكثر من 300 ألف شخص ممّن لم يُمنحوا اللجوء بسبب الاضطهاد الشخصي، وإنّما بسبب الحرب.
غياب خريطة طريق لإعادة اللاجئين يهدّد بعودة التوتّرات بشأنهم في البلدان المستضيفة ويحرم سوريا من أبنائها
وعلى الرَّغم من ذلك، يمكن القول إنّنا لم نشهد في أي من دول اللّجوء حتى الآن عمليات طرد واسعة للسوريين حتى من الدول القلقة سياسيًا من الحُكم الجديد، مثل العراق أو تلك التي شهدت قدرًا من التحفّظ الاجتماعي تجاه الوجود السوري مثل ألمانيا وتركيا ولبنان.
وعلى الرَّغم من تأكيد الوكالات الأممية على ضرورة أن تكون العودة طوعيّةً وتدريجيّةً، ولكن هناك غياب لدى معظم الأطراف المحلية والدولية لما يمكن تسميته بخريطة طريق لإعادة اللاجئين السوريين، ممّا يهدّد بعودة التوتّرات بشأنهم في البلدان المستضيفة، كما أّنه يحرم سوريا من أبنائها خصوصًا أنها تعاني من نقصٍ في أعداد الشباب، إضافة إلى حساسيّات التوازن الديموغرافي.
والاعتماد على العودة الطوعيّة من دون خططٍ ذات طبيعة دوليّة، يعرقله وضع اقتصادي سيّء، حيث إن البنية الأساسية مُدمّرة، كما أنّ الأجور متدنّية للغاية وتبلغ في المتوسط نحو 46 دولارًا.
ولذا هناك حاجة إلى مقاربة إنسانية وواقعية اقتصاديًا لعودة اللاجئين، على أن يكون قوامها العودة الطوعية ليس فقط لأنّ هذه الطوعية ركن ركين من المواثيق الدولية، ولكن أيضًا لأنّ العودة القسرية قد تدفع اللاجئين إلى التهرّب من السلطات بالدول المستضيفة والتسبّب بمشاكل الجميع في غنى عنها.
على العكس، فإنّ تشجيع العودة الطوعيّة مع ضماناتٍ للاجئين للاحتفاظ بإمكانية الرجوع إلى البلد المُضيف سيشجّعهم على خوض تجربة العودة، ويجب أن يواكب ذلك سياسات لتشجيع العودة تستفيد من رخص تكلفة المعيشة في سوريا، مقارنةً بتكلفة إقامة اللاجئين الكبيرة في الدول المستضيفة، بخاصة الأوروبية.
فعلى سبيل المثال، تنظر الحكومة الألمانية في الأعباء المالية النّاجمة عن وجود اللاجئين، حيث يحصل 512 ألف سوري على إعاناتٍ اجتماعيةٍ تصل إلى 4 مليارات يورو سنويًا، أي ما يُعادل 664 يورو شهريًا للفرد، ويمكن تشجيع بعض اللاجئين السوريين على العودة مقابل الحصول على مقابلٍ ماليّ لفترةٍ طويلةٍ لا يزيد عن ربع أو ثلث هذا المبلغ مع تحويل جزءٍ آخر منه للاستثمار في البنية الأساسية والمنازل والمدارس في مناطق عودة هؤلاء اللاجئين. ويمكن لبرلين أن تشرف على إنشاء مدارس لأبناء العائدين تكون متأثرةً بالنظام الألماني بما يسهّل انتقالهم لسوريا ويُمثّل رصيدًا ثقافيًا لبرلين.
يمكن للمنظّمات الدولية والدول الأوروبية التي تموّل تكلفة إقامة اللاجئين القيام بعمل مماثل لتشجيع عودتهم
ويمكن تقسيم التكلفة الحالية المخصّصة للاجئين السوريين إلى ثلاثة أجزاء؛ الأول يقدّم كإعانة معيشةٍ للعائدين، والثاني للإنفاق على التعليم والبنية الأساسية في مناطق العودة، والثالث للاستثمار في توظيف العائدين وإعمار بيوتهم أو مساعدتهم على السكن في منازل جديدة على أن تُخفّض هذه الإعانات تدريجيًا مع تحسّن الأوضاع.
في حالة دول الجوار، يمكن للمنظّمات الدولية والدول الأوروبية التي تموّل تكلفة إقامة اللاجئين في لبنان وتركيا والأردن القيام بعملٍ مماثلٍ لتشجيع عودة اللاجئين خصوصًا أنّ انخفاض التكلفة في سوريا سيجعل جدوى الأموال المُنفقة أكبر من إنفاقها في هذه الدول الثلاث التي تتّسم بغلاء المعيشة.
كما تحتاج سوريا إلى مقاربةٍ تُشبه التجربة المصرية في تحفيز المغتربين على شراء منازل في مدنٍ جديدةٍ ومجمّعاتٍ سكنيةٍ راقيةٍ، يبنيها القطاع الخاص، وتكون جذّابةً للمغتربين نتيجة فارق التكلفة بين سوريا وبين دول المهجر ذات الإيرادات الأعلى، ويمكن التغلّب على مشكلة الكهرباء بجعل هذه المجمّعات تعتمد على الطاقة الشمسيّة.
يمكن أيضًا تشجيع العودة المتقطّعة أو الموسمية، بحيث يُعيد العمّال السوريون أُسَرَهم إلى بلادهم مع احتفاظهم بأعمالهم في البلدان المستضيفة، على أن يعودوا في العطلات الأسبوعية كما في حالتَيْ لبنان والأردن وحتّى تركيا. كما يمكن لألمانيا تشجيع عودة العمالة السورية في الصيف أو حتى تشجيع بعضهم على العمل موسميًا بحيث يقضون جزءًا من العام في ألمانيا والآخر في سوريا (مثلما تفعل إسبانيا مع بعض شرائح العمالة المغربية).
هذه المقاربة الأخيرة تحقّق لسوريا عودةً جزئيةً لبعض مهجّريها وتضمن للدول المضيفة بقاء العمالة السورية من دون أن ترسّخ وجودها بطريقةٍ تثير الحساسيّات السياسية والاجتماعية. وقد يساعد على تحقيق ذلك وجود إقامات متنوّعة لا تصل إلى نيل الجنسية وتتّسم بالمرونة بما يوفر للّاجئ الإقامة من دون الجنسية التي أصبحت هاجسًا يُقلق الحكومات وخصوصًا الشرائح اليمينية المتطرّفة في الدول المستضيفة.
(خاص "عروبة 22")