بصمات

اللغة... والمعيش

في اليوم العالمي للّغة العربية الذي يأتي في 18 كانون الأول/ديسمبر من كل عام، يراودني هذا العام أن أتحدَّث عن ظاهرةٍ معيشة يمكنُ أن نسمِّيها التنازُل اللغوي. ذلكَ أن الاستبدال العبثي لكثير من كلمات العيش اليومي بكلمات أجنبية أصبحَ عادةً متفشِّيةً في المجتمعات المحلِّية العربية، سواء منها المدنيَّة أو الريفيَّة النائية، خاصةً أن التواصُل الثقافي اليوم والتشبيك المعرفي عبر الإنترنت قد ألغى كل التنظيمات الإدارية لأشكال الاجتماع البشري، فأنت قادرٌ على التواصل سواء أكنتَ في مكتبِكَ في العمل أو في غرفة نومك الخاصة.

اللغة... والمعيش

إذًا هناك تنازُلٌ عن اللغة العربية وإشراكٌ قصدي للإنكليزية، والفرنسية في بعض المجتمعات التي احتلتها فرنسا سابقًا، في التعبير عن الحاجات المعيشة، من أبسط الأمور حتى أكثرها تجريدًا، مع مراعاة التفاوت في اشتداد التهجين القصدي للغة بين فئة اجتماعية وأخرى. حتى أنّ الكثير من الشباب تراه وهو يتكلَّم يعجَز عن قول ما يريد بالعربيَّة!

أمام هذه المشهدية، لا بد لنا أن نُلفِتَ إلى قدرات مُهِمَّةٍ قد تفقِدُها الذاتُ العربية إذا ما تنازَلت عن لغتِها وتهجَّنت مخيِّلة الناطقين بمصطلحاتٍ مستعارةٍ من اللغات الأخرى. ولنكون شديدي الدقَّة في ما نرمي إلى إيضاحه، فإننا لا نعني بالتهجين اللغوي إمكان التبادل المعرفي والمعلوماتي بين لغةٍ وأخرى، في المعارف والعلوم والتقنيات والوسائل، بل تلك الرطانة في الاستخدام الشفهي للكلام والتخاطُب الدائم للتواصل الحي بين الناس. كما إنّ هذه الظاهرة ليست موجودةً في العربية بتفاعلها مع الإنكليزية فحسب، بل بين لغات أخرى واللغة الإنكليزية أيضًا، لكن الأمَمَ المتقدِّمةَ هي التي تكون مناعتُها الذاتية أقدرُ على بَعثِ العناصِر الذاتية في الحضور الحَدثي المباشر لحيازَة المشهد وتكوينه بما يحاكي الحاجات الراهنة للناطقين، فتكون الذات التاريخية قادرةً على الامتداد والاشتراك والتفاعل في العالم اليوم.

اهتمام الإنسان بلغتِه يمكِّنُه من بيان أفكاره وتصوّراته وفرادَته في الكون

من مخاطر التهجين اللغوي القصدي إحداث العقل المُتَبَلْبِل، الذي قرَّر السفر العشوائي من دون خرائط ملاحة في هذا الكون المفتوح. سيتعرَّف هذا العقل إلى كثير من الأمور والأشياء، لكنه سيكون في وضعيَّةٍ لا يدرِكُ فيها إمكان توظيف هذه المعارِف في ما ينفعه إذا ما نَظَر إلى مكانٍ يستقرُّ به ليبني كينونَته المفيدة في المجتمع.

إنّ المثال الحقيقي على هذه الرطانة الذهنية هو تخريج دفعات كبيرة من الطلاب المهندسين والمتخصّصين في التجارة والتسويق والخدمات، وغيرها من التخصصات التطبيقية، والذهاب مباشرةً إلى سوق العمَل، والمكوث كلَّ العُمْرِ في مكانٍ واحدٍ أو مكانين، في شركة أو مؤسسة، يقوم فيها الفرد بأداء الوظيفة نفسها، يُنتِجُ المال، يُحَسِّنُ مرتَّبَه،... إلخ، من دون أن يكون لديه أي قدرة تفكيرية ابتكارية للالتفات إلى مجتمعه ودراسة حاجاته الواجِبِ تطويرها وتحسينها.

إنّ نوعية العمل اليوم، تربط الموظَّف الناجح، الفرد الحر المنتج، بشركات عالمية معولمة، بحيث تصبِح علاقته بالمكان المحلي تقتصر على مَطْرَح العمل فحسب، أما الإقامة والمواطَنة والهوية والانتماء الحضاري، فهي أمورٌ يحدِّدها حجم المطرح والأمان الممكن توفُّره لإنجاز العمل فحسب. في هذا الواقع، نجد أن كلَّ أشكال الوعي بالزمان التاريخي للذات وامتدادها الحضاري من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل لا تحدِّدها لحظات الوعي العلمي لها، بل لحظة الإنتاج الاقتصادي الربحي المرهونة بسياقات النظام التجاري الكوني الراهن.

في هذه الحيثية المعيشة، يجب ألا تكون اللغة مسكنًا خارج العالم، بل عليها أن تشترك في صُنْع العالم القائم، وذلك بأن تكون هي لغةُ الأشياء والحاجات والوسائل. فالكون لا يمكن أن يتكلَّمَ لغةً واحدة، لذا على المرء أن يعتني بلغتِه في تواصُلِه اليومي حتى يتمكَّن من تحسين العيش الإنساني العام. إنّ اهتمام الإنسان بلغتِه يمكِّنُه من بيان أفكاره وتصوّراته وفرادَته في الكون، وبهذا اعتراف بقيم الاختلاف والتنوّع، وإثراء لتجربة العيش البشري التطوّري في هذه الأرض.

لفتح بحث متعمِّق بإنهاض اللغة العربية وتعزيزها وتكثيف العمل العلمي والعملي اليومي بها

لا يمكن للعلوم أن تنسجم مع أخلاقيات البشر فتخدم عيشَهم الكريم إلا إذا اعترفت بالتنوّع اللغوي والفكري الذي هم عليه في حضورهم، لذا إنّ العناية بالمخزون الاصطلاحي والمفهومي للّغة يؤدي إلى التجديد الدائم للعلاقة النافعة بين الإنسان والطبيعة، أي إلى سياسة اللغة في التطوير التقني التقدّمي الضروري لفهم الكون.

من هنا، نرى في الاحتفال بيوم عالمي للّغة العربية أن نحوِّلَ هذا التوقيت إلى مشاريع استشفافٍ للوعي العربي باللغة، بحيث ننصرف عن التفاعل الفولوكلوري مع اللغة، وكأنها من تراث الأمّة، والقيام بفتح البحث المتعمِّق بإنهاض اللغة العربية وتعزيزها وتكثيف العمل العلمي والعملي اليومي بها، كي تحاكي الوجود بما هو موجود، فتصبح هي لغةُ العربيِّ في التعبير عن الوجود.

إنّ الهُويَّة الحقيقية تبدأ من هذه اللحظة الواعية، ولا تكون لا باستعادة الكلام السابق على كلامنا، ولا بالتنازُل اللغوي عن المخزون القائم في أذهاننا الآن، بل بالربط الواعي بين الأذهان والأعيان. اللغة العربية اليوم بإمكانها أن تشارك اللغات الحيّة فتكون حاجةً معرفيةً إنسانية، وهذا يكون بتعزيز فلسفة الاستخدام الإبداعي للّغة في سبيل إبداع الهُوية الحضارية العلمية الراهنة للعربي في الواقع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن