عدد أقل من الأسئلة انصرف إلى شكل النظام الشرق أوسطي في المستقبل المنظور، وتفاعل مع ما ذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن أنّ حرب غزّة سيتمخّض عنها نظام جديد للشرق الأوسط، وهي نبوءة تشبه نبوءة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في غمار الحرب على لبنان عام ٢٠٠٦.
كلا النوعين من الأسئلة له مشروعيته، وفيما يخُصّ مصير غزّة بالذات فإنّ هناك ما يشبه البازار الحافل بمختلف أنواع السيناريوهات من أول تسليم الحكم للسلطة الفلسطينية وحتى اختيار قيادة فلسطينية مختلفة، وبين الحدّين خيارات تدور حول تمصير إدارة غزّة أو تعريب هذه الإدارة أو حتى تدويلها. كما أنّ تغيّرًا ما لا بد أن يصيب الشرق الأوسط لكنه لن يكون على الشاكلة التي يتصوّرها نتنياهو وجوهرها تصفية القضية الفلسطينية وإسكات صوت الفلسطينيين للأبد.
هذه الأسئلة إذن مثارة وموضع تفاعل واختلاف واتفاق، أما السؤال الذي ينشغل به هذا المقال فإنه السؤال عن مستقبل العروبة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣.
كنتُ أتناقش مع المفكّر الكبير الأستاذ جميل مطر حول غزّة - موضوع الساعة - عندما تطرّقنا إلى الحملة الضارية التي يتعرّض لها مفهوم العروبة عبر كل الوسائط الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، وكذلك عبر كافة وسائل التواصل الاجتماعي.
من الصعب تبرئة بعض التيارات السياسية صاحبة المصلحة في موت الفكرة العربية
هذه الحملة لها بالتأكيد ما يبرّرها في ظل تخاذل المواقف الرسمية بل والشعبية العربية أيضًا من تطورات العدوان على غزّة، ومع المقارنة بين هذه المواقف ومواقف أخرى بالغة التقدمية لدول أوروبية أو في أمريكا الجنوبية. كما تتماشى الحملة مع التحوّلات الفكرية التي مرّت بها نخب عربية وانتهَت بها في آخر المطاف إلى ترذيل مفهوم العروبة.
وعلى المستوى الشخصي استمَعتُ إلى حديث من هذا النوع - في ندوة كبيرة خارج مصر - ورد على لسان مسؤول عربي سابق جوهره أنّ العروبة مفهوم عاطفي، وأنّ الارتباط الحقيقي إنما يكون بقيم إنسانية مشتركة كتلك القيم التي تجمع بين دول الاتحاد الأوروبي من قبيل الشفافية وسيادة القانون والمواطنة، وخلص الحديث إلى وجوب التخلّص ليس فقط من شعار العروبة لكن أيضًا من شعار العرب، واعتماد مفهوم حسن الجوار في المقابل.
لم أفهم حينها كيف يوضع العرب كمفهوم ثقافي وحضاري معطى "given" مع العروبة كمشروع سياسي يؤخذ منه ويُرد. كما وجدت منطق المسؤول العربي إياه فاقدًا للتماسك الداخلي لأنه إذا كانت المسألة هي مسألة ارتباط بقيم مشتركة فإنّ العرب تربطهم هم أيضًا منظومة من القيم المشتركة.
الحملة على العروبة على خلفية الخذلان العربي لفلسطين مفهومة إذن، لكن في الوقت نفسه فإنّ من الصعب تبرئة بعض التيارات السياسية صاحبة المصلحة في موت الفكرة العربية لفتح الباب أمام أفكار أخرى كالفكرة الإسلامية، علمًا بأنّ المشروعين الإسلاميين غير العربيين التركي والإيراني لم يكن موقفهما أفضل كثيرًا من المواقف العربية، فبينما اكتفى الرئيس التركي بالخطب النارية المهاجمة للوحشية الإسرائيلية، اختبأَت إيران وراء الجماعات الموالية لها وحرّصَت بكل وضوح على نفي أي صلة لها بهجمات الفصائل الشيعية العراقية على الأهداف الأمريكية، أو بالأعمال الحوثية في البحر الأحمر.
كيف نستفيد من تحوّلات الرأي العام بما يحوّل الحرب على غزّة إلى أحد عوامل تجديد العروبة لا معولًا من معاول هدمها؟
وإزاء التعدّد في مصادر استهداف العروبة، فإنّ علينا نحن المتمسكين بعروبتنا، رغم خذلان غزّة الفظيع كما سبق أن تمسّكنا بها بعد احتلال الكويت في ساعات ومن بعده الاحتلال الأمريكي للعراق، أن ندير نقاشًا موسّعًا حول كيفية إنقاذ العروبة، ليس فقط من المشروعات العابرة للحدود، لكن كذلك من مشروعات التفكيك على أُسُس دينية وعرقية وحتى قَبَلية؟.
كيف يمكن أن تكون العروبة بمسلميها ومسيحييها هي حائط الصدّ أمام اندلاع حروب دينية في المنطقة؟.. كيف نستفيد من تحوّلات الرأي العام الدولي تجاه فلسطين ونبني عليها بما يحوّل الحرب على غزّة إلى أحد عوامل تجديد العروبة لا معولًا من معاول هدمها؟.. من أين نبدأ بالضبط وهل يفيد في ذلك التداعي لتنظيم ندوة عربية موسّعة يرتفع فيها النقاش فوق تبادل الاتهامات والتخوين، وتبحث في هذه الأسئلة كافةً بالصراحة الممكنة؟.
أظن أنّ مستقبل العروبة يستحق منّا الاهتمام كما يستحقّه مستقبل غزّة، ولا أرى البتة أي نوع من القطيعة بين هذين المستقبلين.
(خاص "عروبة 22")