وجهات نظر

أدوات بيضاء في أعمال سوداء: المثال السوري

ليس من باب الشتيمة أو الاتهام قول، إنّ القوى العسكرية والأمنية هي أدوات سيطرة وقمع في يد السلطات الحاكمة، فهذه قضية حاضرة منذ أن نشأت الدولة، واحتاجت إلى قوة تحمي حدودها وسكانها، وحماية بلادها ومساعدة مواطنيها في حالات الكوارث، وأضافت إلى أعبائها مهمة حماية السلطة الحاكمة، وقدّمتها على كل ما سبق من مهام في الحالات التي تماهت فيها السلطة الحاكمة مع الدولة، واعتبرت نفسها، فردًا أو حزبًا أو تحالفًا، أنها هي الدولة.

أدوات بيضاء في أعمال سوداء: المثال السوري

في الحالات كلّها، أخذت الأجهزة العسكرية والأمنية على عاتقها تولي مهامها في مواجهة "الأخطار"، سواءً كانت خارجية أو داخلية، فتولّت في الأولى مواجهة قوى فيها دول وكيانات وجماعات معادية، يتوحّد غالبًا في مواجهتها كل الشعب أو أغلبه، مما يجعل تلك المواجهة ذات طابع وطني، وتولّت في الثانية مواجهة أخطار داخلية، كانت أكثر تعقيدًا وحساسية بسبب تأثيراتها على الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية وعلى مجمل البنى القائمة في الدولة والمجتمع بما فيها الأجهزة العسكرية والأمنية.

إنّ الأمثلة السورية في الحالتين كثيرة، والأكثر في مثال مواجهة الأخطار الخارجية، مشاركة سوريا في الحروب العربية الإسرائيلية ومنها ثلاثة حروب كبرى، جرت بين أطراف عربية وإسرائيل في أعوام 1948 و1967 و1973، وتبعتها حروب أصغر مع إسرائيل في لبنان، كانت سوريا طرفًا مباشرًا أو غير مباشر فيها ما بين العامين 1969- 2006.

وظّف النظام أشخاصًا وجماعات ومؤسسات وأجهزة ومنظّمات وهيئات في الحرب على السوريين

والأمثلة السورية في دور القوى العسكرية والأمنية في الأوضاع الداخلية كثيرة أيضًا، لكنها أكثر تعقيدًا وتنوّعًا، بينها أخطار طبيعية، كان منها الزلازل الذي ضرب شمال غرب سوريا بداية العام 2023، وقد قصرت القوى العسكرية والأمنية فيه، ولم تقم بواجبها في مواجهة آثار الزلزال ونجدة ضحاياه، وذهبت إلى الأبعد في دورها نحو الجماعات الإرهابية المسلّحة من "القاعدة" ومثيلاتها، التي تتوفر معطيات كثيرة ومعروفة على دور النظام وحلفائه الإيرانيين في إطلاقها ورعايتها، وكلاهما تجنّب المواجهات المسلّحة المباشرة معها، واكتفى بكلام عام في محاربة أفكارها ومواقفها، التي جعلت السوريين والعرب والمسلمين من خلال أفكارها وممارساتها موضع شبهة واتهام في العالم كلّه، والأهم أنها شوّهت مساعي الشعوب العربية وحراكاتها الاجتماعية والثقافية من أجل الإصلاح والتغيير في العديد من البلدان العربية وفي سوريا خاصة، وهو الهدف الرئيس المشترك لنظام الأسد وحليفه الإيراني في سوريا والمنطقة.

لقد دفعت السلطة الحاكمة في سوريا القوى العسكرية والأمنية في مواجهة تظاهرات ومطالب السوريين في العام 2011، وكان ذلك مفهومًا، لأنه تكرار لما حدث مرّات سابقة ما بين ستينات وثمانينات القرن الماضي، وفيها دفع نظام البعث وامتداده في نظام الأسد لاحقًا الجيش والأمن لمواجهة مطالب السوريين في الحرية والعدالة والمساواة والتنمية. فقتل ودمّر وهجّر كثيرين، قبل أن يكررها لاحقًا، ويضيف إلى ما قام به من أعمال إجرامية غير مسبوقة، أنه وظّف أشخاصًا وجماعات ومؤسسات وأجهزة ومنظّمات وهيئات في جرائمه، وأعطاها دورًا في الحرب على السوريين.

ورغم أنه من الصعب حصر ما تم القيام به في هذا المجال لأسباب بينها صعوبة حصر تلك الجهات جميعها، وما قامت به من أعمال وارتكابات، وبسبب السرية التي أحاطت ببعضها وبأعمالها، فإنّ من الممكن الإشارة إلى بعض الأشخاص والمجموعات والأجهزة ذات الطبيعة الإنسانية، وجهات تقدّم خدمات عامة، ومؤسسات علمية، ممن تم إشراكهم في الحرب، بل وجعلهم يقومون بدور أساسي في الجرائم التي ارتكبتها القوى العسكرية والأمنية ضد عموم السوريين والمدنيين منهم بشكل خاص.

أشرك عمّال نظافة وخدمات عامة ورجال دين وفعاليات اجتماعية ورجال أعمال ومؤسّسات علمية ومدنية في جرائمه

كان من أول أعمال نظام الأسد توظيف مواطنين من فئات ومناطق مختلفة، بينهم عاملون في الخدمات العامة وخاصة عمّال التنظيفات في محافظة مدينة دمشق لقمع التظاهرات الشعبية، وتم دفعهم للمشاركة في فضّ التظاهرات وضرب المتظاهرين، وقد زاد بعضهم إلى هذه المهمة، المشاركة في اعتقال المتظاهرين، ودفع النظام ببعض مؤيديه، بينهم رجال دين وفعاليات اجتماعية، للدفاع عن النظام وتبرير أفعاله ومواقفه، ورجال أعمال إلى تشكيل كيانات ومليشيات أخذت هويات مناطقية وطائفية بينها اللجان الشعبية وجماعات الشبيحة وقوات الدفاع الوطني، وشاركت كلها علنًا مع قوات النظام في اقتحام الأحياء والقرى في أنحاء سوريا، وتعفيش ممتلكات سكانها.

والنوع الثاني مما جرى إشراكه في جرائم النظام ضد السوريين، مؤسّسات علمية، التي كان مركز البحوث العلمية أبرزها، وقد تأسّس أوّل فروعه في سبعينات القرن الماضي لتطوير البحوث العلمية، لكنه تحوّل عنها في الثمانينات إلى مهمات عسكرية تحت إشراف وزارة الدفاع وأجهزة الأمن، وجرى إحداث فروع تابعة له في دمشق والمحافظات، وكُلّف حسب مصادر متعددة بمهمات لإنتاج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، إلى جانب تطوير الأسلحة والذخائر بينها صواريخ وقذائف وبراميل متفجّرة، وتوصف الأخيرة بأنها أكثر أسلحة النظام دموية وأقلّها تكلفة، واستخدم إنتاجه الكيماوي خلال الحرب على السوريين في هجمات، تمّت أوّلها على غوطة دمشق وشملت لاحقًا مدينة خان شيخون في إدلب بعشرات الهجمات.

والنوع الثالث في إشراك المؤسسات المدنية في الحرب الدموية، كان زجّ المشافي والعاملين فيها، من المشافي التابعة لوزارة الصحة ومنها مشفى دمشق الوطني، ومثلها التابعة لوزارة الدفاع ومنها مشفى 600 و601 في دمشق والمشفى العسكري في حمص ومثيله في اللاذقية، كما تم إشراك كثير من المشافي الخاصة، وتركّزت مشاركاتها في ثلاثة محاور: أوّلها تعذيب وقتل المعتقلين الذي يحالون إليها بعد تعرّضهم للتعذيب أو لإطلاق النار من قبل قوات النظام، والثاني إبلاغ المخابرات عن أي مصاب وجريح يراجع المشفى، للتحقيق معه باعتباره مشاركًا في الأنشطة المناهضة للنظام ومنها التظاهرات والاعتصامات والأنشطة التي بدأ "الجيش الحرّ" ممارستها لمنع قوات النظام من الاعتداء على المتظاهرين وحواضنهم الاجتماعية.

من غير الممكن أن يبقى النظام من دون مساندة الإيرانيين ومليشياتهم والحليف الروسي وغيرهم من قوى دعم خفية

لقد استجمع النظام القدرات الممكنة عبر مساعيه لتجنيد كل من أمكن من العاملين في مؤسسات الحكومة والدولة، والفاعلين في الهياكل السياسية والاجتماعية والخدمية التابعة له، وربطهم بالقوى العسكرية والأمنية من أجل ضبط السوريين وإعادتهم إلى حظيرة النظام بكل الطرق، لكنه فشل في استعادة الوضع إلى ما كان عليه، الأمر الذي دفعه إلى الاستعانة بالمليشيات التابعة لإيران أولًا، قبل أن يضيف إليهم الاستعانة بإيران ولاحقًا بالحليف الروسي.

وإذا كان لهذه الخلاصة من دلائل، فإنّ الأهم في دلالاتها، أنّ النظام لا يستطيع الاستمرار، ومن غير الممكن أن يبقى دون دعم ومساندة الإيرانيين ومليشياتهم والحليف الروسي وغيرهم من قوى دعم خفية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن