قد يلوم البعض فصائل المقاومة الفلسطينية على التسبّب في اندلاع الحرب وجرّ ويلاتها على السكان في إطار الاعتقاد أنّهم يعيشون في اللاحرب، لكن هذا القول رغم بساطته ينمّ عن جهل بطبيعة التجربة التاريخية التي يعيشها بشكل محدّد الشعب الفلسطيني، فمهما كان آمنًا من الحرب، فإنّه يظل مهمومًا بالضرورة بتحريك التجربة التاريخية نحو تحقيق الانفلات من الاستيطان الإسرائيلي، أي الانتقال من تجربة الاستيطان إلى تجربة التحرّر، فيصير تحقّق الانتقال من عدمه عند الفلسطيني هو مقياس التعبير عن التمييز الفاصل بين العتبات التاريخية لتجاربه الزمنية، ممّا يجعله بالنهاية مسكونًا بشكل لافت بالحرب حتى أثناء الهدنة.
الموت تحت نيران العدو هو انتصار وحياة.. فالمستشهد يُعبّر عن المجتمع ويتكلّم باسمه
إنّ واقع التجربة المفهومية الخاصة بالشعب الفلسطيني تعكس مساره الزمني إزاء معطيات واقعه التاريخي المحدَّد بالإطار الاجتماعي والسياسي والجغرافي، فالأرض، الاستشهاد، الموت، الصمود، النزوح، اليهود، المقاومة، الجهاد، الاعتقال والتعذيب، كلّها بنية مفهومية تتغلغل في ثنايا تصوّرات الناس لأمورهم الحياتية اليومية.
ثم إنّ الحرب ليست واجهة عسكرية ترتبط بالصور الدموية وأعداد القتلى المهولة والمفزعة التي تخلّفها هجمات إسرائيل على فترات أو إثر ردّها على هجوم إحدى فصائل المقاومة وحسب، بل هي حرب حياتية مستدامة في ثنايا الحاضر منذ تجربة الاستيطان، مما أوجد نمطًا وجوديًا نوعيًا للفلسطيني، ويعكس هذا النمط تجربة تاريخية يتحينُ من خلال الماضي والراهن، وتتساوى من خلاله، ثنائية الحياة والموت، وتتعايش في ثناياها البندقية والحجارة، والهدم والبناء، ما دام أنّ الأفق المأمول لا زال قيد الطموح ولم يتحقّق بعد، الأمر الذي انعكس على طبيعة القراءة التأويلية التي تخصّ مجموعة من المفاهيم السوسيوسياسية المترجمة للتجربة الزمنية المعاشة في راهنيتها الممتلئة بأفُقٍ واعدٍ أبعد ممّا هو راهن.
يُعدّ مفهوم الموت من أهم المفاهيم المسيطرة على المشهد الفلسطيني اليوم، فالموت تحت نيران العدو هو انتصار وحياة، مما يحيلنا على الانتقال من دلالة الموت في سياقها العادي إلى دلالة الموت بما هو حياة، ففي السياق العادي يظل الموت مقبولًا بما هو حتمية وجودية مسلّم بها، إذ لا يحمل معنى إلا باعتباره ممرًا من هنا إلى الهناك، بغض النظر عن طبيعة هذا الهنا والهناك، لكن في السياق الفلسطيني تحديدًا، فقد صار مسألة اجتماعية وسياسية تهمّ كيانًا مشتركًا، فالمستشهد يُعبّر عن المجتمع، يتكلّم باسمه، راسمًا أفقه المستقبلي، إنّه معنى وظيفي يترجم طموحات الأحياء وآمالهم، فهو ليس مجرد ميت وإنّما قد مات من أجل شيء ما، قدسية الموت هنا ترتبط بالهدف الجماعي، إنّه الموت من أجل الأرض ليستحق بالدرجة الثانية نيل السماء، وهنا تحمل هذه الصفات طابعها الزمني الخاص بآمال شعب بكامله، كأننا أمام إعادة تقديم تمثّلات الموت انطلاقًا من راهنية متطلّبات الحاضر وكذا الأفق المستقبلي.
يمثّل الموت بالنهاية طموحًا جماعيًا يحقّق مجده عبر من ضحّوا بحياتهم من أجل تحقيق الأفق التحرّري
إنّه نوع من التوظيف الدنيوي للمفهوم، يُعبّر عن إمكانية الاستمرار في الحياة، كأنّنا أمام تناقض جدلي يساهم في خلق متغيّر اجتماعي وسياسي يتعلّق بتحريك الأفق التحرّري في زمنيّته الراهنة، لذلك يتحوّل حدث الموت إلى حافز نفسي مهم، ما دام يُحرّك ويضمن استمرار الطموح التحرّري على المدى البعيد، ليمثّل بالنهاية هويةً وطموحًا جماعيًا يحقّق مجده واستمراره عبر من ضحّوا بحياتهم من أجل تحقيق الأفق التحرّري. مهم هنا إثارة ما يخلّفه حدث الاستشهاد على المستوى الاجتماعي والسياسي، ما دام يُجنّبنا السقوط في تبخيس حدث المقاومة أو التقليل منها، فيصير بالنهاية بوابة الإمكان المستقبلي للأحياء الفلسطينيين.
(خاص "عروبة 22")