في هذا السياق حاول العراق بين عامي 1979 و1991 وراثة دور مصر، لكن انتهت المحاولة باحتلاله الكويت وهبوب عاصفة تحريرها من قبضته عام 1991، ثم احتلاله هو نفسه عام 2003.
فشل العراق سريعًا في لعب الدور المصري لأنه لم يفهم سرّه، ولو أنّ صدام حسين قرأ فقط مجموعة الحرافيش القصصية لنجيب محفوظ لأدرك السر، وعرف لماذا عاش الفتوة الأكبر عاشور الناجي في نفوس أهل الحارة زمنًا طويلًا، وترك أثرًا خالدًا، جعل الحرافيش يتذكرونه في كل أزمة ويبكونه عند كل محنة، ولماذا كره الحرافيش جل الفتوات وشمتوا في سقوطهم.
الدولة تختلف عن الفتوة، لكنهما يتشاركان في تجسيد معادلة القوة والحكمة
الدولة تختلف يقينًا عن الفتوة، لكنهما يتشاركان في تجسيد معادلة القوة والحكمة، فلا فتوة لرجل ولا قيادة لدولة من دون قوة الجسد/السلاح، لكن غياب الحكمة يحيل الفتوة إلى بلطجي صغير يضرب رأسه في جدران العبث والظلم حتى تسيل منه الدماء وينقضي أجله، كما يحيل الدولة إلى بلطجي كبير يخبط رأسه في جدران الواقع الإقليمي والنظام العالمي حتى تتحطم قواه وتزول ريادته، وفي الحالين يكون الغروب دون أثر أو ذكرى.
لقد قادت مصر مشروع التحرّر القومي العربي، استثمرت فيه من قوت أبنائها الكثير حتى لامها بعض هؤلاء الأبناء، لكن أبناء عمومتهم أدركوا معنى رسالتها وقدَّروها، عدا بعض المارقين الذين حالت مصالحهم العابرة دون فهم الرسالة الواضحة.
لم تستخدم مصر، رغم طموحها المتوقد إلى الوحدة، السلاح إلا في صالح من طلبه من العرب، وحتى الذين طلبوه ثم عادوا وتنكروا له بالانفصال كسوريا، لم تقاتلهم. بل إنها لم تستخدمه في مواجهة من كانوا جزءًا منها لكنهم أرادوا الرحيل عنها كالسودان، فإذا بها تمنحهم الحق في تقرير مصيرهم.
كانت خبرة مشاركتها في تحرير الجزائر زاهية فوق كل حد، وكذلك التصدي لمحاولة العراق ضم الكويت عام 1960، حيث كان موقف عبد الناصر حاسمًا في تقرير المصائر. بل إنّ الدور المصري في اليمن والذي يراه البعض خطيئة، قد أفضى في النهاية إلى الهدف المنشود، ولولا ممانعة بعض العرب لتحقق الهدف على نحو أسهل وأسرع. هكذا كانت قيادة مصر للعرب، انطلاقًا من قيم تقدمية، ونزعات تحررية، تستنهض لدى الجميع عزائم الاستنارة والحداثة والوحدة. عاش فيها المناضلون والمتمردون، احتضنت الفقراء قبل الأثرياء، وعندما شب الجميع عن الطوق تركت لهم الحق في أن يحبوها أو يكرهوها، أن يمتدحوها أو يلعنوها، من دون أن تتعقبهم لتغتالهم. وحتى اليوم لا تزال القاهرة هي العاصمة التي يشعر فيها كل عربي أنه حقًا في بلده.
المطلوب بعثٌ عربيٌ جديد يلملم أشلاء المنطقة ويجمع قواها بحكمة ويحشدها في مواجهة أعدائها الحقيقيين
يتحدث البعض اليوم عن اللحظة الخليجية، أي دور الخليج في قيادة العالم العربي، طالما صار المال لديه وفيرًا، وباتت مصر فقيرة. والحق أنّ الخليج يلعب بالفعل أدوارًا مؤثرة، سياسية ودبلوماسية وإعلامية، سواء من خلال الدعم الاقتصادي الذي تقدمه بلدان كالسعودية والإمارات وقطر والكويت وسلطنة عمان، أو عبر المصالحات والوساطات التي قامت بها بدءًا من اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، وصولًا إلى الهُدن والاتفاقات على وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل.
غير أنّ تلك الأدوار الناعمة، رغم أهميتها، لا ترقى إلى حد القيادة، ولا تصنع حسًا استراتيجيًا للمنطقة، وهو ما انعكس في تنامي الفراغ داخلها، وفي تمدد دول الجوار حولها، إلى درجة امتلاك القرار في بعض عواصمها، حتى وصل العالم العربي إلى حد التيه التاريخي في مواجهة الوحشية الإسرائيلية، والانحياز الأمريكي، الأمر الذي يتطلب بعثًا عربيًا جديدًا، يلملم أشلاء المنطقة، يجمع قواها بحكمة، ويحشدها في مواجهة أعدائها الحقيقيين، وهذا لا يمكن له أن ينطلق إلا من مصر، ولهذا حديث آخر.
(خاص "عروبة 22")