بصمات

جدليّة الحقّ والقانون والقوة في غزّة!

يكشف استنكار الرأي العام العالمي للهمجيّة الإسرائيليّة في غزّة، مع عجزه عن التصدّي لها، عن ثغرةٍ عميقةٍ في الضمير الإنساني، تُقَلِّصُ حضور وأدوار مفاهيم، كالحقّ والعدل والقانون، في تشكيله، لصالح مفهوم القوة. إنّها الثغرة نفسها بين المثالي والواقعي، الأخلاقي والسياسي، فالفكرة الأكثر أخلاقيةً غالبًا ما تكون الأكثر هشاشة. جذور تلك الثغرة تكمن في الفجوة القائمة بين المجتمع المدني بما له من مشروعيّة أخلاقيّة، وبين السلطة السياسيّة وما تملكه من قوةٍ قاهرةٍ داخل كلّ دولة. وكذلك، الفجوة بين المجتمعات المدنية المختلفة، والتي تعجزها عن التعاضد في تشكيل مجتمعٍ عالميّ فاعل.

جدليّة الحقّ والقانون والقوة في غزّة!

تَبَلْوَرَ مفهوم المجتمع المدني منذ نظَّر له جون لوك (John Locke) قبل ثلاثة قرون، ونما حتّى صار شابًّا يافعًا في الديموقراطيات المستقرّة، فلم يعُد ممكنًا لحكوماتها أن تتجاهله وإلّا عادت ودفعت الثمن. أمّا مفهوم المجتمع العالمي فربيب القرن العشرين، ولا يزال طفلًا غضًّا في مواجهة الدول الكبرى، التي تملك القوة والقدرة على التصرّف خارج حدود القانون وضوابطه، وتتعامل مع الحقّ باستعلاءٍ وغطرسة.

المُـثُـل التي يطمح إليها الضمير الإنساني لا يمكن بلوغها إلا في ظل ديموقراطية راسخة ومجتمعات مدنية فعّالة

وعلى الرَّغم من ذلك، يمكننا تصوّر يومٍ يكتسب فيه المجتمع العالمي قوة الحضور نفسها لدى المجتمع المدني، لأنّ الفارق بينهما يكمن فقط في عمق الخبرة، فالمجتمعات المدنيّة تمكّنت من إسقاط حكومات، وأظهرت كوابح معقولةً لغطرسة السلطة. أمّا المجتمع العالمي فلا يزال يفتقد تلك الخبرات، الأمر الذي يسمح لغرائز القسوة الوحشيّة أن تذهب إلى مداها في هدر الضمير الإنساني. ولعلّنا نذكر أنّ تجريم الحرب العدوانية حدث فقط بعد توقيع "معاهدة كيلوغ – برييّان" (Pacte Briand-Kellogg) من قبل خمسة عشر دولة عام 1928، وأنّ ميثاق الأمم المتحدة الذي حرَّم مجرّد التهديد بها يعود فقط إلى 1945.

ينبع تفاؤلنا من إدراكنا للعلاقة الجدليّة بين المجتمعَيْن: المدني والعالمي. فمُثُلٌ كالعدالة والسلام، التي يطمح إليها الضمير الإنساني لا يمكن بلوغها إلّا في ظلّ ديموقراطيةٍ راسخةٍ، تنطوي على مجتمعاتٍ مدنيةٍ فعّالةٍ يمكنها التصدّي لأشكال الإرغام والقهر المحليَّيْن كافة، وينمو فيها الإحساس بالواجب المشترك تجاه البشرية. ولذا فإنّ الواجب الأكثر استحقاقًا اليوم هو غرس ذلك الإحساس داخل صروح القوانين المدنيّة لدى جميع الدول، ليتمكّن من سلوك سلطتها وكلّ مكوّناتها، وعندها يدرك الجميع أنّ عالمًا واحدًا يمكن أن يتّسع لنا جميعًا مهما كانت اختلافاتنا: المؤمن والملحد، الأبيض والأسود، الغني والفقير، شرط أن يسود التفهّم والتعاطف والاعتراف.

جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعيّة في غزّة ليست إلا نموذجًا أوّليًا لذلك النوع القادم من الشرّ العبثي

وإذا كان مفهوم المجتمع المدني يقتضي ألّا يتطلّع كلّ فرد إلى مصلحته المُطلقة، بل في إطار الصالح العام للجماعة، فإنّ مفهوم المجتمع العالمي يقتضي ألّا تسلك دولة طريقًا يُحقّق مصلحتها على حساب الدول الأخرى، بل في سياق مبدأ الخير الكوني العام، الذي وُلد في ضمير البشرية مع حلول الديانات العالميّة، خصوصًا الإسلام والمسيحيّة، بديلًا عن الوثنيّات الضيّقة والمحليّة.

وازدهر بتأثير الفلسفة المثالية التي غذَّت بقوة النزعة الإنسانية الحديثة. وإذا كان الضمير الإنساني لم ينضُج بالقدر الكافي لبلوغ المجتمع العالمي، لذا استمرّت الحرب بما تنطوي عليه من عنفٍ وظلمٍ، فلنتذكّر أنّها لم تعد شرعيةً، وأنّ علينا ألّا نفقد الأمل في ردعها، أو في امتلاك القدرة على عقاب سدنتها، لأنّنا إذا ما استسلمنا لليأس فسوف نجد أنفسنا أمام همجيّةٍ ليست هي القديمة، حين كانت الحروب بين القبائل والإمارات والممالك تجري بالسّيف في ساحاتٍ منعزلةٍ وتُخلّف مئات القتلى، بل همجيّة حديثة، فائقة القدرة، يمكنها الفتك بأرواح الملايين عن بُعْدٍ وداخل بيوتهم، حتّى أنّ ما جسّدته النازية المقيتة والفاشية القبيحة قد يبدو نموذجًا تافهًا للشرّ الذي يمكن أن نواجهه، بموازاة التطوّر الهائل في إنتاج أدوات الدمار والموت.

لا يمكن للعالم أن ينتصر لمن يخونون أنفسهم

إنّ جرائم التطهير العِرقي والإبادة الجماعيّة التي جرت ولا تزال تجري في غزّة ليست إلّا نموذجًا أوّليًا لذلك النوع القادم من الشرّ العبثي، وهو أسوأ أنواع الشرور، إذ يكشف عن إهدارٍ كاملٍ لحكمة التاريخ، ورهانٍ مُطلقٍ على القوة العارية، وهو رهان نؤكّد على أنه خائب، لن يُثنيَ قوى التقدّم الأخلاقي والتمدّن الإنساني عن السير في طريقها المبُتغى. لكنّ المعضلة تكمن في عامل الزمن، في التكلفة المباشرة، من خرابٍ مُعمّمٍ ودمٍ مهدرٍ، يدفعها أهل غزّة اليوم من حسابٍ مكشوفٍ بلا رصيد حقيقيّ، كان المفترض أن نُكوّنَه نحن العرب، لكنّنا لم نفعل بشكلٍ استثنائيّ، ولا حتّى اندرجنا في النضال الإنساني المُتصاعد عالميًا، بل ظللنا نقطة الضعف الرئيسيّة فيه، والحلقة المفقودة في سلسلته، فلا أجدر المواقف الرسمية صَدَرَت عن حكوماتنا، ولا أكبر التظاهرات خَرَجَت من مجتمعاتنا، ولذا تأخّر انتصارنا، إذ لا يمكن للعالم أن ينتصر لمن يخونون أنفسهم!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن