قضايا العرب

"الجنائية الدولية" تخذل القانون الإنساني.. ماذا وراء ازدواجية كريم خان؟

القاهرة - محمد بصل

المشاركة

بينما ترزح غزّة تحت نير العدوان الإسرائيلي المستعر وسط خذلان العرب والعالم، يكاد القانون الدولي والإنساني يئنّ تحت وطأة الخذلان المستمر من المنظمات الدولية المعنية بحمايته وتطبيق مبادئه، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، التي تعطي حتى الآن مثالًا فاضحًا لازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية الداخلة في اختصاصها الأصيل، لناحية التحقيق والفصل في القضايا المتعلّقة بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

فعلى الرغم من الاعترافات العلنية من زعماء إسرائيل السياسيين والعسكريين، من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى وزير الأمن القومي إيتمار بنغفير، بالنية الأكيدة لجعل غزّة غير قابلة للحياة، وعلى الرغم من مشاهد المجازر والتدمير الممنهج والتهجير القسري للمدنيين واستهداف المستشفيات والأطفال والنساء على مرأى من العالم بأسره، زار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إسرائيل مؤخرًا – أثناء زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة - والتقى بعدد من أهالي الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، ووصفهم بـ"الناجين من أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول"، متماهيًا مع الخطاب الرسمي الصهيوني الذي يحاول تشبيه "طوفان الأقصى" بـ"الهولوكوست".

كريم خان تناسى أنّ تصريحات نتنياهو وقيادات جيشه وحكومته تندرج حرفيًا تحت التعريفات المذكورة نصًا لجرائم الإبادة الجماعية والعدوان والجرائم ضد الإنسانية في نظام روما الأساسي للمحكمة الذي دخل حيّز التنفيذ عام 2002 ولم تنضم إليه إسرائيل حتى الآن، ومن ضمن تعريفات تلك الجرائم التي يُفترض أن تختص المحكمة الجنائية بمحاكمة المسؤولين عنها: قتل أفراد جماعة محددة وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، وإخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يُقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا، والقتل العمد، والإبادة، وإبعاد السكان ونقلهم قسرًا، والاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو دينية، والأفعال اللاإنسانية التي تتسبّب عمدًا في معاناة شديدة أو أذى خطير، والانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف، وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات أو الاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرّر ذلك، وتعمّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين.. وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره.

ربما يكون من المفاجئ – لكثيرين - أنّ العبارات السابقة لا تسبح في فضاء من اللامعنى، ويجب عدم التعامل معها كمجرد ألفاظ رُصّت جنبًا إلى جنب لبيان معاناة غزّة، بل هي ألفاظ قانونية ذات معنى ودلالة واقعية، تضمّنها النظام الأساسي للمحكمة كأركان وصور محتملة للجرائم التي تخضع لرقابة المحكمة، على أن يتولّى المدعي العام مباشرةً التحقيق في مدى تحقّق تلك الصور بجدية وأن يستقصي عن المزيد من الدلائل والمعلومات من المصادر المحتملة كافة، بما في ذلك الشهادات التحريرية والشفهية، أي ليس فقط المعلومات الموثقة من مصادر مباشرة أو من أجهزة الأمم المتحدة أو المنظمات الحكومية الدولية وغير الدولية.

وتعكس هذه الأحكام أنّ مشرّعي النظام الأساسي للمحكمة تعمّدوا التوسّع في ذكر صور وأركان الجرائم لضمان شمول وعموم اختصاص المحكمة على جميع الجرائم المسندة إليها وتقليل فرص أعداء الإنسانية في الإفلات من المحاسبة بإدعاء أنّ ما ارتكبوه غير مجرّم. كما أتيح للمدعي العام وقضاة المحكمة الاستعانة بجميع وسائل استقاء المعلومات وإثباتها، ليتمكّنوا من إثبات الجرائم بمعزل عن محاولات إخفاء الوثائق والتهرّب من المسؤولية أو تضارب الروايات، لا سيما وأنّ الهدف النهائي للمحكمة يكون إدانة أشخاص بعينهم ثبت تورّطهم في الأمر بارتكاب الجرائم أو تقرير ارتكابها كمسؤولين عن الفاعلين المباشرين الذين سفكوا الدماء وروّعوا الأبرياء بأيديهم.

هل الأحداث في أوكرانيا أوضح من غزّة؟

كانت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 أوّل اختبار حقيقي لكريم خان بعد 7 أشهر تقريبًا من تولي منصبه، فاتسم أداؤه بالمبادرة والسرعة والمواكبة الحقيقية لنصوص النظام الأساسي المذكورة، معنىً ومبنىً. فخلال أول شهرين من الحرب بدأ في جمع الأدلة المختلفة من خلال الشهادات والصور ومقاطع الفيديو، وفي الشهر الثالث أرسل إلى أوكرانيا 42 محققًا وخبيرًا بحماية دولية، وفي صيف العام نفسه بدا واضحًا من تصريحاته أنّ هناك اتجاهًا لتصعيد القضية إلى المحكمة لإصدار أوامر اعتقال ضد المسؤولين عن "ارتكاب بعض الجرائم" وهو ما غدا واقعًا في فبراير/شباط 2023 عندما قدّم كريم خان طلبات إلى الدائرة التمهيدية بالمحكمة لاعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

غير أنه وبسبب تناقض العديد من الشهادات وضعف الأدلة وغياب الصور ومقاطع الفيديو وتعرّضها للكثير من التلاعب، اقتصر أمر الاعتقال على تهمة رئيسية هي "المسؤولية الجنائية عن ترحيل ونقل الأوكرانيين بشكل غير قانوني، ونقل الأطفال من المناطق المحتلة في أوكرانيا إلى روسيا"، وتمثلت أركانها في اختطاف مئات الأطفال من دور الأيتام ودور رعاية الأطفال الأوكرانية ونقلهم إلى روسيا تمهيدًا لتبنيهم، وإصدار مراسيم رئاسية لتسريع إجراءات منحهم الجنسية الروسية وتوزيعهم على عائلات روسية بلا أطفال.

لقد اعتبر كريم خان أنّ هذه القضية التي تبدو على أهميتها هامشية نسبيًا بالنسبة لمجريات الحرب كاملة، مدخلًا مناسبًا وسريعًا للنيل من بوتين والسلطات الروسية، في ظل حالة انعدام اليقين التي تسبّبت في عرقلة التوصّل إلى "أدلة دامغة" في وقائع أخرى كثيرة، بحسب خبير قانوني مطلع على أعمال المحكمة الجنائية، أكد لـ"عروبة22" أنّ العديد من الأدلة التي قُدّمت للادعاء العام من أوكرانيا "ثبت تعرّضها سلفًا للتلاعب بهدف المبالغة أو فرض سردية معينة للحرب بما يتجاوز الحقائق، على أمل توريط بوتين وقيادات جيشه سريعًا في قضايا تقيد حرية تحرّكهم دوليًا وتؤدي لفرض عقوبات عليهم حول العالم".

ولا يمكن القول بانطباق حالة "عدم اليقين" هذه على الأحداث في غزّة، فمقابل التعتيم الإعلامي الشديد من روسيا على الأحداث الحقيقية الواقعة على الأرض، قدّمت إسرائيل كل الأدلة القولية والصورية والعملية على مرأى ومسمع من العالم كله، وتبدو في أوج فخرها بجرائم الحرب التي ترتكبها، وقادتها يتحدثون عن صور مختلفة من الإبادة الجماعية والانتقام العام من الفلسطينيين وعن مخططاتهم التدميرية، ويبثّون مقاطع فيديو وصورًا عبر حساباتهم الشخصية تتفاخر بتدمير المرافق والمؤسسات والمباني الدينية والصحية والسكنية وبالقتل والاعتقال على الهوية في غزّة والضفة الغربية، وصولًا إلى صور اعتقال المدنيين وتعريتهم وإهانتهم ونشرها على نطاق واسع وتوثيق المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان الطبيعة المدنية لهؤلاء الضحايا.

وربما يقارب البعض تلك المشاهد من زاوية تشبيهها بصور معتقلي وضحايا "الهولوكوست" العراة في معسكرات الاحتجاز الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ الفارق الجوهري بينها هو أنّ النازي لم يتفاخر بمثل تلك المشاهد ولم يبثها بنفسه على الملأ كما يفعل الصهيوني اليوم، وهذا الفارق تحديدًا يُمثّل السند القانوني الرئيس الذي كان يتوجب على كريم خان بناء العديد من القضايا عليه، لكنه لم يفعل، ولا يبدو متحمّسًا لذلك.

بل إنّ الأسوأ في هذا السياق، أن تعلو أجندته السياسية على إحقاق الحق، فيبادر إلى دمج عملية "طوفان الأقصى" كجريمة حرب مزعومة إلى جانب جرائم الحرب والعدوان الأكيدة في غزّة، ليساوي بين الغاصب والضحية. أخذًا في الاعتبار أنّ المحكمة لا يمكن أن تبسط رقابتها على ما حدث في كيبوتسات غلاف غزّة – باعتبارها أرضًا إسرائيلية - إلا بإجراءات تشريعية وتنفيذية معقّدة ربما لا تتحقق أبدًا، فيؤدي ذلك إلى تعطيل القضية برمّتها.

الادعاء والمحكمة تحت السيطرة.. إلى متى؟

هناك العديد من العوامل التي تؤثّر على كريم خان فتجعله "متردّد الخطى" إزاء الأوضاع في غزّة، بل وتؤدي إلى إقدامه على خطوات تفرّغ اختصاص المحكمة الجنائية الدولية من مضمونه وتمثّل إهانة لها، كزيارة الكيان الصهيوني الذي طالما ازدرى المحكمة ورفض التعامل معها وهاجمها بضراوة منذ انضمام فلسطين لنظام روما عام 2014.

على رأس تلك العوامل الدور الكبير الذي قامت به المدعية العامة السابقة في المحكمة فاتو بنسودا في تحريك قضايا ضد الإسرائيليين عامي 2019 و2021 واستصدار قرار مهم من المحكمة في فبراير/شباط 2021 بجواز ممارسة المحكمة لاختصاصها الجنائي في فلسطين بما يمتد إلى غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة، أي الأراضي الفلسطينية وفقًا لحدود 4 يونيو/حزيران 1967 وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وهو الحكم الذي يصلح نقطة انطلاق فورية لتحقيق موسّع وسريع في العدوان الإسرائيلي الحالي.

إنّ مقارنة ما قدّمه أي مدعٍ للمحكمة بما فعلته بنسودا خلال فترة ولايتها لن تكون إلا لصالح الأخيرة، حيث كانت الأنشط والأنجع خاصة في قضايا المواجهة مع الدول الكبرى وإسرائيل. دفع هذا الولايات المتحدة – المنسحبة من نظام روما كروسيا وإسرائيل - لاتخاذ إجراءات عقابية ضد بنسودا عامي 2019 و2020 بلغت حدّ منعها من دخول أراضيها، لأنها اجترأت على فتح تحقيق يخصّ أفغانستان، وهو ما يُعدّ نوعًا من الضغط النفسي والأدبي الكبير على المحكمة ككل الآن.

وبعد رحيل بنسودا بنهاية ولايتها، تم اختيار كريم خان البريطاني من أصل باكستاني، والذي ما لبث أن أهمل علنًا القضايا الخلافية مع الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، مكررًا أكثر من مرّة رغبته في "توثيق العلاقة مع المجلس وإعطاء الأولوية للقضايا المحالة منه" وكان الانعكاس العملي لذلك – بحسب مصدر "عروبة 22" - التركيز على جرائم الحرب في ليبيا خلال الحرب الأهلية وفي دارفور وكوت ديفوار ومالي وبوروندي وفنزويلا، وبالطبع البحث عن أدلة أكثر على جرائم روسية أخرى في أوكرانيا.

وإلى جانب إرث بنسودا؛ لا يمكن تجاهل تأثير القوى الكبرى على الدعم المالي للمحكمة الجنائية المتكفّل برواتب العاملين بها ومصروفات أعمالها وتشغيلها داخل وخارج مقرّها، فبنظرة فاحصة على قائمة أبرز الدول المموّلة، نجد السياسات الأمريكية حاضرة بقوة على الرغم من عدم تواجد واشنطن بنفسها، فاليابان وألمانيا هما أكبر دولتين داعمتين للمحكمة، تليهما فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. ومعظم هذه الدول – على الأقل - كان موقفها مطابقًا لإسرائيل منذ بداية العدوان وحتى وقت قريب.

وتخشى المحكمة على ضوء العوامل السابقة تكرار المطالبات الدولية بإلغائها أو تقليص اختصاصاتها، بالنظر لضآلة إسهامها في إرساء السلم العالمي، الأمر الذي يؤدي إلى "عملية تصفية ومراجعة واسعة للأدلة والقرائن في مرحلة الادعاء، وتفعيل قدر كبير من المواءمات السياسية، لعدم تكرار حالة الصدام التي تسبّبت فيها بنسودا".

لكن يبدو أنّ المنظومة الدولية لا تهتم إذا حوّل هذا الوضع المحكمة الحنائية الدولية إلى مجرد أداة انتقامية وتقييدية لأعداء الغرب التقليديين، مما يجعل حديث كريم خان – منذ بضعة أشهر فقط - عن "وجوب توفير المأوى للفئات الأكثر ضعفًا على الخطوط الأمامية، والسعي للتقرّب من المجتمعات المظلومة، والاستفادة من أدوات التكنولوجيا المتقدّمة وبناء شراكات لدعم التحقيقات الاستقصائية على الأرض" مجرد لغو لا يُعتد به.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن