بيان الخارجية الإثيوبية كشف عن أمرين؛ الأول، وربما هو الأكثر خطورة هو إصرار إثيوبيا على استغلال كافة مواردها المائية تحت مظلة مضمون فضفاض تم الخلاف بشأنه قانونيًا من قبل وهو الاستخدام المنصف للمياه، لأنّ هذا الإصرار يعني ببساطة أنّ إثيوبيا ماضية في مشروعها الاستراتيجي، والذي يتمثّل في بناء مزيد من السدود لغرض حماية سد النهضة مبدئيًا، وأيضًا حرمان دولتي المرور والمصب - السودان ومصر - على التوالي من أي موارد مائية نيلية.
أما الأمر الثاني، فهو تقدير الموقف الإثيوبي الذي يرحب باتفاق ودي وليس "قانونيًا ملزمًا" كما تسعى مصر التي لديها شواغل ومخاوف من فترات الجفاف والجفاف الممتد، والتي هي من سمات التصرفات الهيدروليكية لنهر النيل، خصوصًا مع ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ.
أما بيان وزارة الري المصري، الذي وُصف بأنه تعبير عن مؤسسات الدولة المصرية، فأهم ما فيه هو أنه اعتبر أنّ خيار المفاوضات قد انتهى بالنسبة لمصر، وهو ما يؤشر على يأس مصر من وجود أي فرص للتوافق مع أديس أبابا، وأشار البيان إلى إصرار الدولة المصرية على حماية مواردها المائية، لكنه لم يفصح عن الآليات التي سوف تعتمد عليها مصر لتحقيق تلك الحماية.
مخططات لجر الجيش المصري في فخ التدخل الخارجي بهدف تقويضه كما جرى للجيش العراقي
وبطبيعة الحال تبدو البيئة الدولية والإقليمية موالية لإثيوبيا التي لا تواجه تحدي ممارسة الضغوط الدولية عليها حاليًا من أي طرف بسبب الانشغالات بأزمات كبرى مثل حروب غزّة وأوكرانيا والسودان، وكون أديس أبابا حليفًا موثوقًا به لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بينما تُشكّل البيئة الإقليمية والدولية لمصر عنصرًا ضاغطًا على معطيات أمنها القومي، في ضوء تداعيات أزمات مثل ما يدور على حدودها الشرقية في فلسطين والسيولة الأمنية في كل من السودان وليبيا، فضلًا عن مستجدات البحر الأحمر التي باتت مهدّدة لجزء مهم من موارد الموازنة العامة المصرية.
الشاهد؛ أنّ مصر تواجه أزمة مؤثرة على مقدراتها، ويتساءل المرء عن وسائل مواجهتها ذلك أنّ البيئة السودانية، وبسبب الحرب الممتدة على الجغرافيا السودانية، لم تعد تتيح تحالفًا مصريًا سودانيًا يحقق مصالح البلدين ضد إثيوبيا بأية آلية.
كما أنّ حجم التخزين المائي في بحيرة سد النهضة بات كقنبلة قابلة للانفجار في حال وجود أي مهدّد لهذا السد أو خلل فني أو تقني، يأتي ذلك في وقت تشير فيه بعض التقديرات إلى أنّ هناك مخططات لجر الجيش المصري في فخ التدخل الخارجي بهدف تقويضه كما جرى للجيش العراقي، وهو أمر يجعل الدولة المصرية معرّضة للسيناريو العراقي ذاته في مراحل التشكيل الجديد للمنطقة.
وفي هذا السياق، يبدو النطاق العربي راهنًا تشغله المنافسات البينية أكثر مما تشغله فكرة قصور القدرات المصرية في هذه المرحلة الحساسة من التاريخ العربي، كما لا تشغله بالتأكيد مسألة بناء منظومة مصالح عربية متوافقة تمكّن كل عنصر أو دولة في النظام العربي من مواجهة تحدي مرحلة "سايكس بيكو" الثانية، فالعرب يواجهونها كما واجهوا "سايكس بيكو" الأولى في أوائل القرن العشرين، متناقضين ومتفرّقين ينشغل كل منهم بأجندة ضيّقة مرتبطة بمصالح قصيرة الأجل وليس مصالح استراتيجية تسمح للنظام العربي بالتأثير ومواجهة الضغوط الإقليمية والدولية التي يتم ممارستها ضده حاليًا.
آليات المواجهة المصرية على الصعيد الاستراتيجي لحماية مواردها المائية غائبة أو غير مرئية
أما النطاق الأفريقي الذي تبنى مقولات نظرية بشأن الحلول الأفريقية لأزمات القارة السمراء، فيبدو معطّلًا ومتجاهلًا لهذه الأزمة الكبرى التي من شأنها أن يكون لها تداعيات خطيرة على منطقتي شرق وشمال أفريقيا. ذلك أنّ الاتحاد الأفريقي لا يملك قرارًا مستقلًا عن الأجندات الدولية على وجه العموم.
من المؤكد هنا أنّ مصر تواجه التحدي المائي المؤثّر على أمنها القومي منفردة على الصعيد الإقليمي العربي بإجراءات وحلول محلية قصيرة الأجل، مثل الاعتماد على بحيرة السد العالي لعامين قادمين فقط، والتوسّع في مشروعات تحلية مياه البحر، وغيرها من الإجراءات المثيلة، بينما يبدو أنّ آليات المواجهة المصرية على الصعيد الاستراتيجي لحماية مواردها المائية غائبة أو غير مرئية بالنسبة لنا كخبراء وأكاديميين مدنيين في ضوء تعتيم كبير تمارسه السلطات المصرية منذ ثلاث سنوات تقريبًا في كل ما يتعلق بسد النهضة وأيضًا العلاقة مع إثيوبيا!.
(خاص "عروبة 22")