وجهات نظر

غزّة.. وذاكرة "الهولوكست"

ماشا غسين، كاتبة أمريكية من أصول يهودية روسية، مُنحت مؤخرًا جائزة حنة أرنت في ألمانيا التي تعطى لمن ساهم في دفع الحوار الفكري في الموضوعات السجالية، لكن بعض المؤسسات الألمانية قاطعت حفل الجائزة إثر نشر مقال للكاتبة بعنوان "في ظل الهولوكست" في صحيفة "نيويوركر" الأمريكية (٩ ديسمبر ٢٠٢٣).

غزّة.. وذاكرة

المقال المذكور تذهب فيه الكاتبة إلى أنّ حرب الإبادة الدائرة حاليًا في غزّة تدخل في باب الهولوكست وتذكّر بجرائم النازية ضد اليهود خلال العهد الهتلري.

بالنسبة إلى غسين، أصبح من المستحيل اليوم التفكير بحرية في موضوع الإبادة الجماعية في ألمانيا، لكون هذا المصطلح غدا محتكرًا على أحداث المحرقة اليهودية، بما لهذه الظاهرة من آثار خطيرة على طبيعة المواقف الأخلاقية من الأحداث الدائرة اليوم في الشرق الأوسط.

ومع ذلك، اعترف المفكرون اليهود أنفسهم من ضحايا المحرقة أنّ الهولوكست ليس حادثة خاصة باليهود، بل هي ظاهرة قانونية وأخلاقية شاملة تتحقق في كل السياقات والظروف.

حالة الإبادة الجماعية التي تتعرّض لها غزّة دليل ملموس على تنامي النازية في عقر الدولة اليهودية

ففي حين ربطها الفيلسوف زيغموت باومان بالحداثة واعتبر أنها نتاج مركبها الفكري التقني، ذهب أدورنو إلى أنها حالة استبداد قصوى وبحث عن مبدأ أخلاقي شامل يعصم منها. أما حنة ارندت فلم تتردد في وصف بعض أحزاب اليمين المتطرّف في إسرائيل بالنازية، ولم تتردد في الوقوف ضد زيارة مناحم بيغن المسؤول عن مذبحة دير ياسين للولايات المتحدة الأمريكية وقد ناصرها في موقفها العالم الفيزيائي اليهودي الشهير انشتين .

لقد تحوّلت ذاكرة الهولوكست إلى سلاح فعّال لتحصين إسرائيل من كل نقد، بما أدى إلى حالة إرهاب فكري حقيقي في ألمانيا وبقية أوروبا، وكأن نقد إسرائيل والصهيونية يساوي العداء للسامية.

وتذهب غسين إلى أنّ حصار غزّة وحالة الإبادة الجماعية التي تتعرّض لها حاليًا دليل ملموس على تنامي النازية في عقر الدولة اليهودية، ولا فرق بين سياسة الغيتوهات النازية لعزل اليهود وسياسات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين راهنًا، كما لا تمييز بين المحرقة اليهودية والمحرقة الفلسطينية الحالية.

نلمس هنا نموذجًا من الأصوات الفكرية والإعلامية اليهودية في الغرب التي بدأت تدرك خطر الممارسات الإسرائيلية على صورة المجتمعات اليهودية التي عانت سابقًا من أقسى موجات التمييز والقمع والإبادة.

لقد كانت العبارة التي استخدمها الفلسطينيون للتعبير عن مأساتهم الوطنية هي "النكبة"، وهي مقولة ارتبطت بتأسيس الدولة الإسرائيلية وما واكبه من جرائم تطهير عرقي وتهجير قسري.

إلا أنّ عبارة "نكبة" وإن كانت تحمل دلالة المحنة، لا تعكس حجم المأساة الفلسطينية التي حوّلت لاحقًا إلى موضوع حقوق سيادية على أرض محتلة وعودة قرابة نصف سكان فلسطين أطلقت عليهم مقولة اللاجئين.

طرح العديد من المؤرخين إشكال تصنيف الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية، الذي لا يندرج في أي من النموذجين الاستعماريين المعروفين سابقًا: احتلال الاستغلال واحتلال الاستيطان. في الحالتين المذكورتين، يكون الاستعمار حضورًا عسكريًا محضًا تواجهه إرادة تحررية وطنية في صورة مقاومة شرعية.

المعركة المستقبلية الحقيقية تدور على مستوى الوعي الإنساني الكوني

ما يميّز الحالة الاستعمارية في فلسطين هو الادعاء الزائف بشرعية الاحتلال وما يقوم عليه هذا الادعاء من سياسات ضم وتهجير وفصل، تهدف إلى تكريس الاستيطان والتوسّع دون الاعتراف بحقوق السكان الأصليين.

إنها حالة من نفي الإنسانية تكرّس أخطر درجات التمييز والإقصاء، بما يمهّد الطريق لوضعية الإبادة الجماعية التي تنطلق دومًا من نزعة الكراهية والإلغاء.

وهكذا نخلص إلى أنّ المعركة المستقبلية الحقيقية تدور على مستوى الوعي الإنساني الكوني، بتوجيه النظر إلى المأساة الفلسطينية الجديدة بكونها تدخل في منطق الهولوكست. وليست المقالات والتصريحات العديدة التي نقرأها اليوم لشخصيات يهودية بارزة سوى الدليل الملموس على جدوائية وفاعلية هذه المعركة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن