والحرب في سوريا وحولها مثال منذ بدأت في العام 2011، دخلت هذا المسار من أوسع أبوابه عبر الدخول الدموي للأجهزة الأمنية وقوات الجيش في مواجهة حركة الاحتجاج والتظاهر، فتوجّهت نحو المتظاهرين والمحتجين قتلًا وجرحًا واعتقالًا وملاحقةً، قبل أن تبدأ حربها على حواضن حركة الاحتجاج في التجمعات السكانية والمهنية، وتشن هجمات قتل ودمار ونهب فيها، ثم فرضت الحصار على بعضها، واقتحمت ودمّرت وهجّرت، وفتحت أبواب استباحة السوريين وممتلكاتهم وأموالهم على مداها، وهو مسار ما زال مستمرًا ومتصاعدًا بعد نحو ثلاثة عشر عامًا، شهدت انضمام أطراف أخرى محلية وخارجية إلى قوى الخراب والجريمة، وسط تحوّلات سورية وإقليمية، كان بينها تبدّلات في طرق وأهداف مسارات الدمار والنهب.
لقد طوّر نظام الأسد فكرة دمار ممتلكات السوريين، ونقلها من فكرة ممكنة بفعل الصراع المسلح والحرب، فأقام بجانبها فكرة ثانية قائمة بذاتها، هدفها إلحاق الأذى والضرر بمعارضي النظام والثائرين عليه بتدمير ممتلكاتهم، ومنها حرق بيوت ومحال وورش بعد احتلالها، وقتل حيوانات المزارع التي نجت من القصف والاجتياح، بل عمليات التدمير شملت ممتلكات تعمل في النفع العام ومنها مشافي ومحطات وقود ومدارس وشركات خاصة.
نهبت المخابرات والوحدات العسكرية ممتلكات السوريين وفي بعض الحالات أوكلوا تلك المهام لأنصارهم والميليشيات
وطالما كنا في حيّز دمار ممتلكات السوريين، فلا بد من إشارة إلى ما سبّبته العمليات العسكرية من قصف واجتياح المناطق السورية من جانب حلفاء نظام الأسد الإيرانيين والروس، وقد اقتصر جهدهم غالبًا على قصف جوي وصاروخي من جانب الروس، ومثله بري مدفعي وصاروخي من جانب الإيرانيين، وتمثّل الحرب المفتوحة من جانب الطرفين والنظام على شمال غرب سوريا والمتواصلة نموذجًا لقتل السوريين ودمار ممتلكاتهم الخاصة من بيوت ومحال ومزارع وورش إلى جانب ممتلكات ذات نفع عام من أسواق ومحطات وقود ومدارس ومشافٍ، وأدى قصف الأخيرة لضعف شديد في جاهزية وأداء القطاع الصحي المحدود الإمكانيات في الاستجابة لحاجات نحو خمسة ملايين نسمة.
لقد كان من المتوقع نهب ما أمكن من ممتلكات وأموال أهالي المناطق التي هاجمها الجيش وأجهزة المخابرات استنادًا إلى التجربة التي تكررت مرتين، الأولى على الأقل في حكم الأسد الأب، واحدة في فترة التدخل السوري في لبنان 1976 وما بعدها، والثانية في ثمانينات القرن الماضي، عندما اجتاح جيش الأسد مناطق ومدنًا سورية بينها مدينة حماة في الحرب ضد الجماعات المسلحة من الطليعة المقاتلة وحلفائها، وهكذا كرّرت المخابرات والوحدات العسكرية سيرة نهب ممتلكات وأموال السوريين في المناطق التي اجتاحوها، وفي بعض الحالات أوكلوا تلك المهام لأنصارهم من المؤيدين والميليشيات المسلّحة التابعة لهم للقيام بأعمال التعفيش مقابل مبلغ يُدفع مسبقًا لقادة الوحدات الميدانية، وقد نشأت في عدد من المدن ومنها دمشق أسواق لبيع الممتلكات المنهوبة والمعفشة.
وتكررت حالات من الدمار والنهب على يد جماعات خارج السلطة والمعارضة، بينها "داعش"، وأخرى محسوبة على المعارضة المسلّحة لكن على نطاق ضيّق، لأسباب أهمها أنّ مؤيدي النظام وشبيحته، كانوا يغادرون قبل احتلال المسلحين مناطقهم، وقد أشاع مسلّحو التنظيمات الإسلامية فكرة "الغنائم" لتبرير تدمير ونهب المؤسسات العامة باعتبارها تابعة للنظام بما فيها مؤسسات الكهرباء والاتصالات ومراكز أبحاث علمية، بيع بعض تجهيزاتها وموجوداتها باعتبارها "خردة" بينما كانت تكاليفها ملايين الدولارات.
وبخلاف التدمير والنهب السابق، فقد طوّر نظام الأسد سبلًا جديدة لنهب السوريين، وقد لحقته على الطريق ذاته بعد سنوات سلطات الأمر الواقع، التي تمثلها في شمال شرق سوريا الإدارة الذاتية وحكومتا (الائتلاف وهيئة تحرير الشام) في شمال غرب سوريا، وشمل خط النهب الذي مارسه النظام، رفعًا متواصلًا للضرائب على السوريين، أدت إلى مضاعفتها مرات ومرات، وتمت زيادة أسعار الخدمات في الأوراق والوثائق الصادرة عن السلطة ومنها جوازات السفر، وتطبيق سياسة مصادرة ممتلكات أشخاص من المعارضة وأقاربهم قبل تطبيقها في السنوات الأخيرة على مؤيدين وموالين من العسكريين ورجال الأعمال، وقد ذهبت سلطات الأمر الواقع في شمال البلاد غربًا وشرقًا في اتباع نماذج من تلك السياسات، فرفعت الإدارة الذاتية الضرائب في مناطق سيطرتها، وأصدرت نظام إدارة أملاك الغائبين في مناطق سيطرتها على نحو ما فعلت السلطات في دمشق، والأمر في الحالتين مسنود إلى التجربة الإسرائيلية في إدارة أملاك الغائبين الفلسطينيين الذي أُقرّ ونُفذ بعد حرب عام 1948، فيما قامت حكومتا شمال غرب سوريا بالتوسّع في فرض الضرائب، التي لا تقتصر على المعابر فقط، بل على أي حاجز يقيمه واحد من التنظيمات المسلّحة بصورة كيفية، وزادت حكومة الائتلاف رسوم العودة إلى شمال سوريا إلى ضعف ما يفرضه نظام الأسد على عودة السوريين من لبنان، وكله غيض من فيض سياسة نهب أموال السوريين.
غير أنّ نهب السوريين في إطار السياسات والإجراءات العامة في ظل سلطات الأمر الواقع، لا يقل سوءًا وترديًا عما يتعرّض له السوريون بشكل فردي من نهب أموالهم داخل سوريا وخارجها، والحالة الأخيرة يمثّل ظاهرة متفرّدة في حالات، بل في تاريخ اللجوء في العالم، حيث تحوّل اللاجئون السوريون في العديد من البلدان إلى دجاجة تبيض ذهبًا فيما كان يفترض أن يحصلوا على دعم ومساعدات تساعدهم في رحلة لجوئهم وعذاباتهم.
وفي كل الأحوال، يتعرّض السوري للابتزاز للحصول على مال منه لقاء إتمام معاملات مستوفية كل شروطها أو للحصول على خدمة غير مأجورة، والأمر لا يقتصر على الداخل السوري حيث مناطق سيطرة النظام في المقدّمة تليها منطقة السيطرة التركية ثم الإدارة الذاتية، بل هو موجود بدرجات في بلدان الشتات ومنها لبنان وتركيا والأردن، ومصر وبعض دول الخليج، حيث يتم التعامل مع السوري باعتباره "سائحًا" وخاصة في موضوع الإقامات، التي يصرف عليها السوري في تركيا أكثر مما يصرفه السائح الخليجي، وتبلغ تكلفة فيزا السوري إلى مصر ثلاثين ضعف تكلفة فيزا الأوروبي باستثناء تعقيدات وإجراءات الحصول عليها، والمثالان بين نماذج لما يتعرّض له السوري من تمييز سلبي، يسلب أمواله عبر زيادة تكلفة خدمة الفيزا والإقامة لدى دول الجوار.
خلاص السوريين لن يتم دون الوصول إلى حل سياسي ينتج نظامًا جديدًا يلبي احتياجاتهم
أدت السياسات والممارسات السابقة والمستمرة في تدمير ممتلكات السوريين ونهب أموالهم إلى استنفاد معظم قدراتهم المادية الظاهرة والمستورة، ودفعت بهم نحو فقر شديد، بات شاملًا نحو تسعين بالمائة من السوريين حسب الأرقام الدولية، وساهمت في إضعاف السوريين وتصعيب ظروف حياتهم في وقت كان يفترض حصولهم على دعم ومساندة فاعلة لمواجهة ما أصابهم وبلدهم من كوارث تسبّب فيها نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس وغيرهم.
إنّ خلاص السوريين من مسارات تدمير ممتلكاتهم ونهب أموالهم وتداعياتها، لن يتم دون إحداث تبدّل جوهري في حياتهم، يبدأ في إحلال السلام في سوريا والوصول إلى حل سياسي ينتج نظامًا جديدًا يلبي احتياجاتهم إلى عيش كريم يوفر الحرية والعدالة والمساواة، وفي الطريق إلى الهدف الكبير لا بد من تدخلات أممية وعربية لتحسين أحوال اللاجئين والمقيمين السوريين في البلدان العربية وتركيا وتخفيف الضغوطات المالية والإدارية على الضعفاء منهم بصورة خاصة بانتظار عودتهم إلى بلدهم وحياتهم الطبيعية.
(خاص "عروبة 22")