صحافة

الشرع والهجري: جذور متشابكة والتربة أعمق

صبحي حديدي

المشاركة
الشرع والهجري: جذور متشابكة والتربة أعمق

لن تُمحى بسهولة، إذا كانت ستُمحى أصلاً في أيّ زمن منظور، مشاهد التصفيات العشوائية والإعدامات الميدانية وأفانين التحقير الجسدي الأشنع والإهانات اللفظية الأبشع، وشتى الانتهاكات التي شهدتها محافظة السويداء مؤخراً؛ مع اندلاع المواجهات المسلحة الدموية بين مجموعات مسلحة تتبع بعض العشائر، وميليشيات منظمة مسلحة بدورها تتبع (حتى يثبت العكس) لشيخ العقل حكمت الهجري.

وعلى نحو انفرادي، فاجع ومأساوي وعميق الغور إنسانياً ووطنياً، كيف ستطوي الذاكرة السورية المعاصرة فظائع المشفى الوطني في السويداء، أو مشهد رفع علم دولة الاحتلال الإسرائيلي على أحد أسطح المدينة. تلك الويلات، بصرف النظر عن هويات مرتكبيها وانتماءاتهم العشائرية أو الدينية أو الطائفية، ليست وحشية وهمجية وبهيمية فحسب، فهذه توصيفات الحدود الدنيا؛ بل هي تمثيلات فعلية وميدانية لخطوط في الانحياز السياسي والإيديولوجي الإقصائي، تحرّك الغرائز وتؤجج الأحقاد.

وبهذا المنظور، إذا جاز استخدام المفردة هنا، فإنّ المقاتل في صفوف هذه المجموعة العشائرية المسلحة أو تلك الميليشيا المذهبية قد يرتكب جرائمه من باب إعلاء راية قبائل الشعيطات، أو نصرة الشيخ الهجري، أو تلبية نفير جهادي ما؛ لكنّ الدوافع الأعمق التي تحرّك أدوات العنف الأقصى في بنيانه الذهني الإجمالي تضرب بجذورها في تربة أعمق وأشدّ تشابكاً واختلاطاً وتذبذباً وتشوّشاً، قد تبدأ من خلفيات تاريخية واجتماعية وثقافية وتربوية، ولكنها يندر ألا تنتهي عند السياسة كخطّ أكبر ناظم للانحياز، حتى في أنساقه الأشدّ انقياداً واتّباعاً.

وهو منظور يدفع إلى تحميل مسؤولية مقتل العشرات من السوريين، ممّن أريقت دماؤهم خلال المواجهات الأخيرة، إلى فريق سياسي أوّل يزعم أنه الدولة، أو انتقل إليها من عقلية الفصيل والميليشيا، ويَفترض أنه مخوّل بفضّ نزاعات أهلها متى شاء وكيفما اتفق؛ وإلى فريق سياسي ثانٍ يزعم الانفراد بالعقل الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، يفتي ذاتياً بأنه مخوّل بإدارة شؤونهم وتحصيل حقوقهم وتحديد واجباتهم، متى شاء وكيفما اتفق. وإذا توجب على القاتل من المجموعات المتقاتلة، العشائر والدروز والفصائل، أن يُحاسب كمجرم حرب في دولة قانون وقضاء، ذات يوم قريب أو بعيد؛ فإنّ جريمته، اليوم وللتوّ، تقع أيضاً على عاتق الفريقين المخوّلَين ذاتياً، وإنِ بنِسَب متفاوتة تبعاً لأشكال ومضامين "التخويل" دون سواه.

ليس مقبولاً عقلياً، وهو بالتالي مدعاة حساب ومساءلة، أن يعلن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع أنّ رئاسته باتت الدولة، بعد أن كان يقود "هيئة" جهادية وفصائلية؛ ثم يسكت، منذ سبعة شهور ونيف، على انفلات السلاح والفصائل والميليشيات "الخارجة عن القانون" حسب توصيف مؤسساته وأجهزته، وأن يخلي لها الساحة كي تهرّب وتُفسد وتتاجر بالكبتاغون وتقتتل فيما بينها أو مع خصوم لها. وليس مقبولاً عقلياً، وبمستوى قد يكون أقلّ درجة في الحساب والمساءلة، أن ينظر الهجري إلى الشرع كـ"مطلوب للعدالة الدولية"، وأن يُلزمه بحماية طريق دمشق ـ السويداء ولكن من دون السماح بدخول جندي واحد إلى المدينة، ويبقيها تحت سيطرة "مجلس عسكري" محلي، ويمنح ذاته الحقّ في طلب الحماية الدولية، واستصراخ دولة الاحتلال الإسرائيلي التدخل لحماية دروز جبل العرب من "العصابات المسلحة التي تسمي نفسها زوراً حكومة".

وللمرء أن يضيف إلى هذه الثنائية، القائمة على اختلالات شتى راهنة وأخرى آتية، حقيقة أولى تقول إنّ الشرع لا يبدو مسيطراً تماماً على جميع الفصائل التي قاتلت معه في "المحرّر"، ثم نفرت تحت قيادته إلى حلب وحماة وحمص ودمشق، قبيل فرار بشار الأسد؛ وأنه، استطراداً، لم يضمن انفلات بعض تلك الفصائل في ارتكاب مجازر الساحل السوري تحت غطاء دحر فلول النظام البائد، أو تكرار فظائع مماثلة في السويداء تحت غطاء فضّ الاشتباك بين المتقاتلين. وللمرء إياه أن يضيف حقيقة ثانية، موازية ومكمّلة، مفادها أنّ الشيخ الهجري ليس الناطق الوحيد بلسان دروز جبل العرب؛ وثمة مشايخ عقل يخالفونه الرأي ويحثون على الالتحاق الفوري بركب الجمهورية الوليدة، لأنّ البديل هو تجذّر الفوضى وحال الاقتتال داخل المحافظة.

وفي أيّ طراز من الجدل بين هاتين الحقيقتين، ثمة ما يحيل إلى خلاصة مأساوية ومحزنة ومحبطة في آن: هل الأداة المباشرة، شبه الصماء وشبه العمياء والعشوائية غالباً، هي التي يتوجب أن تُلام أوّلاً، وتُلصق بها وحدها الآثام والانتهاكات والفظائع؛ أم الجدير بالملامة الأكبر، والأَوْلَى، هو المحرّك الذي يشغّل الأداة، سواء انطوت نواياه على الخير أم الشرّ؟ قد يصحّ، كما سيقول مناصر للرئيس الانتقالي، أنّ إدخال الجيش والأمن العام إلى السويداء دونه خرط القتاد، واستدعاء القصف الإسرائيلي، ولهذا تأخر وتلكأ، وذاك ترجيح وارد بالطبع؛ ما خلا أنه قد يليق بقائد "هيئة" جهادية أياً كانت تحوّلاته، لكنه يبخس الكثير من موقع رئيس دولة، حتى إذا لم يكن منتخباً.

وقد يصحّ، كما سيقول مدافع عن استئثار الهجري بالقرار الشعبي والطائفي الدرزي، إنّ للمحافظة خصوصيات تستوجب هذه الحزمة أو تلك من الحقوق، ولأبنائها تجارب دامية مع الجهاديين في سنوات سابقة، ومن حقها أن تتوجس خيفة من السلطات الانتقالية. وهذا بدوره مرجّح، إذا تغافل المرء عن حقيقة إبرام أربعة تفاهمات سابقة بين دمشق والمرجعيات الروحية الدرزية في المحافظة، وأنّ بعض تاريخ الهجري قابل للطعن من جانب علاقاته مع النظام البائد، وبعض الفصائل والميليشيات المذهبية العراقية، وضباط الاحتلال الروسي.

غير خالٍ من المغزى أنّ الرئيس الانتقالي التزم الصمت المطبق حول ما يجري في بلد بات هو رأس السلطة التنفيذية فيه، شاء المرء أم أبى، وما دامت أيّ صيغة لانتخابات حرّة ونزيهة غير متوفرة في ظروف سوريا الإحصائية والاقتصادية والأمنية والإدارية؛ وظلت أجهزته تعد بكلمة وشيكة، حتى خرج بها في ساعة متأخرة من نهار ممضّ طويل. أمّا الهجري فقد اختار النهج المعاكس تقريباً، إذْ وافق على نداء تهدئة صدر عن الهيئات الروحية، ثم انقلب عليه بعد ساعتين فقط لأنه "مذلّ" وفُرض من دمشق، ليخرج لاحقاً بإعلان رافض لبيان تهدئة ثانٍ أصدرته الفعاليات الروحية والمدنية، فيتوعد الملتزمين به، ويناشد "ولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو" إنقاذ السويداء.

ولعلّ الإشارة في السطور السابقة إلى نِسَب متفاوتة، في إلقاء المسؤولية على عاتق الشرع والهجري، لا تبدأ من تفصيل أكثر خطورة وعاقبة من ذاك الذي يخصّ تزويد دولة الاحتلال الإسرائيلي بذريعة مسرحية فاضحة للتدخل في الشأن السوري؛ ليس كما فعلت مراراً منذ سقوط نظام كان بمثابة حارس لها في سهول وهضاب الجولان السوري المحتل، إذْ لم تكن في حاجة إلى ذرائع، بل لاستهداف صفة الشرع السيادية عبر قصف محيط القصر الرئاسي، والنيل من رمز سوريا العسكري ودكّ مدخل رئاسة الأركان.

وقد يمرّ زمن، غير طويل، قبل أن تتضح مفارقة مضحكة، لعلها مبكية أيضاً: الذين اتهموا الشرع بالهرولة نحو التطبيع، من أهل "الممانعة" خصوصاً، سوف يحارون في تفسير الضربة الإسرائيلية للعاصمة دمشق: هل تتكفل بتعزيز شعبية الشرع في ناظر السوريين، كرافض أو معاند أو عالي السقف والتطلّب في ملفّ التطبيع، يطلق تسمية «الكيان» على دولة الاحتلال؟ أم تقول ضمناً إنها رسالة «عتاب» شديدة التدمير، ودفعة أولى على حساب مفتوح، لأنّ الشرع لم يهرع سريعاً وكما ينبغي نحو أحضان التطبيع؟

الأرجح، في كلّ حال، أنّ التاريخ لن يتسامح مع الاثنَين المخوّلَين ذاتياً، الشرع والهجري؛ إذْ يتحمل كلّ منهما مستويات شتى من المسؤولية، إزاء إراقة دماء عشرات الضحايا الأبرياء، وإبطاء أو عرقلة مسارات استشراف سوريا الجديدة.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن