لقد كان السلام - قبل طوفان الأقصى - لدى الأطراف المتشابكة في إقليم الشرق الأوسط المحورية "إسرائيل وإيران وتركيا" وحلفاؤهم من داخل الإقليم ومن خلفهم الظهراء الكبار الولايات المتحدة الأمريكية/أوروبا (الغرب الأطلسي) وروسيا والصين والهند يعني أمرين؛ أولًا: الهندسة القسرية للمنطقة، وثانيًا: الانخراط في تأسيس المشروعات الاقتصادية العملاقة والشروع في إنشاء "الممرات الاقتصادية" العابرة للقارات Economic Corridors؛ بغض النظر هل سيضمن المشروع "السلامي" تحقيق الشروط الأساسية لسلام حقيقي "العدالة، والشمولية، والديمومة" أم لا؟.
وتشير القراءة الأولية لحصاد العملية السلامية منذ مدريد وحتى اليوم إلى تردي أوضاع الفلسطينيين على المستوى القاعدي وأنهم أصبحوا يعيشون في "أكبر سجن على الأرض"، حسب عنوان الكتاب الهام الصادر في 2017 للمؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابيه" الذي يعرض فيه - تفصيلًا - كيف حوّل الكيان الصهيوني المحتل "غزّة" و"الضفة" إلى سجن كبير والفلسطينيين إلى سجناء بالمعنى الحرفي للكلمة.
مستجدات العقد الأخير كانت تستلزم "وأد" القضية الفلسطينية واستكمال عملية الإقصاء التاريخية للفلسطينيين
على هذه الخلفية، كان العمل يجري على قدم وساق من أجل إعادة هندسة الإقليم "جيوسياسيًا" لتمهيد الطريق لسلام الاستثمار. وعليه تم طرح أكثر من طبعة لشرق أوسط مغاير. فكانت هناك طبعة الشرق الأوسط الجديد "البيريزية"، ثم تم طرح طبعة "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكية، وهما طبعتان كانتا تسعيان لضم الجميع في مشروع اقتصادي واحد بالشروط الأمريكية الإسرائيلية.
بيد أنّ جملة عوامل جرت مع نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة غيّرت الكثير من التصوّرات نرصدها في عجالة: التهميش الممنهج للقضية الفلسطينية، "الحراكات" العربية وما ترتب عليها من تحولات بنيوية على جميع الأصعدة، حكم اليمين المتشدد السياسي والديني في إسرائيل، التراجع الأمريكي/الأطلسي، التطلّعات الإيرانية والتركية للعب دور محوري في الإقليم، الصعود الصيني والروسي والهندي، إخفاقات مجتمعية: اقتصادية وسياسية وثقافية مقلقة لدول المشرق والمغرب في المنطقة يقابلها نجاحات لافتة في دول النفط.
وفي ضوء ما سبق، كان لا بد من تصور جديد للشرق الأوسط يأخذ في الاعتبار ما طرأ عليه من مستجدات حلت به خلال العقد الأخير كانت تستلزم "وأد" القضية الفلسطينية - إن جاز التعبير - بأي شكل واستكمال عملية الإقصاء التاريخية للفلسطينيين، واستيعاب التحولات التي لحقت بالإقليم. ولم يكن هناك أكثر ملائمة لذلك إلا بالمشروعات "الميجا" المتمثلة في الممرات الاقتصادية العملاقة العابرة للقارات، وهي مشروعات ذات طابع راديكالي إذ إنها تعمل حرفيًا بـ"تدويل" الشرق الأوسط من خلال توسيع الشراكة الاقتصادية التي لن تتوقف فقط على دول الإقليم، بل سوف تتعداها إلى مَن هُم خارجها، كما أنها سوف تتطرّق إلى صناعات وتقنيات وأنظمة طاقة واتصال جديدة، ما من شأنه أن يسرّع من تحديث المنطقة وتحرّرها من إرث الماضي. ويراهن الأمريكيون/الإسرائيليون على أنّ "الشرق الأوسط المُدوّل" في ظل الممرات الاقتصادية والمشروعات الاقتصادية "الميجا" سوف يحقق الاستقرار المنشود.
هل يمكن في ظل الهندسة القسرية واقتصاد الممرات أن ينعم الإقليم بالاستقرار وقد أصبح سوقًا كبيرًا؟
وما لا يتحدث عنه الحلف الغربي الأطلسي هو أنّ الشرق الأوسط التاريخي، لم يعد ساحة نفوذ مغلقة على الولايات المتحدة الأمريكية ورأس حربته الكيان الإسرائيلي الذي يحظى بالدعم المطلق - عسكريًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا-، فلقد أصبح مجالًا مفتوحًا للتمدد الإيراني القوي، كذلك للحضور التركي الفاعل كقوى محورية، ويأتي من خلفهما الظهراء الكبار الدوليون الجدد كالصين وروسيا وقد أصبح لكل منهما نفوذ ومشروعات "ميجا" وممرات اقتصادية عملاقة مقابلة.
وتكمن خطورة الاقتصاد القائم على "الممرات الاقتصادية" في إحلال الاقتصادات القومية باقتصادات أقرب إلى نمط التجارة العالمية في العصور الوسطى، تكون خارج سيطرة الاقتصادات القومية/الوطنية، ورهينة "النادي الأوليجاركي" الجديد - القديم، و"كارتلات" النفط والغاز والسلاح والمعادن والأحجار الكريمة، والأسمدة، وسلاسل التوريد، والأغذية، والطاقة المتجددة والهيدروكربونات.. إلخ. نعم قد يُحدث اقتصاد "الممرات" انتعاشًا ماليًا ولكن هل من شأنه أن يجعل من دول المنطقة نموذجًا تنمويًا حقيقيًا، وألا يضر ممرات تاريخية قائمة بالفعل، وألا يعني هذا صراعات مستحدثة قابلة للاشتعال؟.. وهل يمكن أن تكون هناك تسوية عادلة وشاملة ومستدامة للقضية الفلسطينية؟.. وهل يمكن في ظل الهندسة القسرية واقتصاد الممرات أن ينعم الإقليم بالاستقرار وقد أصبح سوقًا كبيرًا؟.
إنّ "طوفان الأقصى" المقاوم انطلق ضد المحتل في المقام الأول، ولكنه فتح الباب للكثير والكثير من التساؤلات حول المستقبل.
(خاص "عروبة 22")