تجاوزت الحرب الإسرائيلية على غزة واحداً وعشرين شهراً، ولا تبدو لها نهاية قريبة. ورغم ما يجري من عمليات إبادة جماعية وتدمير ممنهج وتجويع متعمد، لم تبلغ الطغمة العسكرية في إسرائيل نشوة النصر التي تطاردها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها إلى لبنان وسوريا وحتى اليمن وإيران.
التعثر المستمر للمفاوضات الجارية حول هدنة في غزة تجد مبررها في عدم رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقف القتال، والخروج من حالة الحرب التي تلبّسته ولا يرى لنفسه وجوداً بعيداً عن هستيريا القتل والغارات وتصنّع الإنجازات العسكرية. كما أن الدور الأمريكي لا يبدو بريئاً أيضاً، فهو يلعب دوراً مزدوجاً بين داعم مطلق لإسرائيل في حروبها، ووسيط يدّعي العمل على التوصل إلى صفقات من شأنها إنهاء الحرب في غزة وخفض التوترات في المنطقة. وربما نتيجة هذا الازدواج حصراً، لم يتحقق شيء يمكن البناء عليه أو اعتماده أساساً موثوقاً للتفاؤل بأوضاع إقليمية أكثر استقراراً.
ضمن هذا الازدواج أيضاً هناك حروب علنية، يترجمها العدوان المستمر على غزة والانتهاكات المتمادية في سوريا ولبنان، وهناك حروب صامتة كالتي تجري في الضفة الغربية والقدس المحتلتين وعمليات مشبوهة تجري في الإقليم وكثيراً ما تسجل ضد مجهول، بينما مصدرها الأساسي إسرائيل، وهدفها إشاعة مزيد من التوتر والقلق، وأيضاً التغطية على فشل الحل العسكري في جلب الأمن، مثلما ترسمه أوهام اليمين المتطرف في تل أبيب.
مع استمرار الحرب على غزة والتصعيد في الجوار الإسرائيلي، هناك مشكلة تكبر وتتسع ولا يجد لها نتنياهو وجماعته حلاً، وهي الخروج من هذه الحالة الحربية والعودة إلى سبل أخرى يمكن أن تحقق بعض الأهداف لا كلّها، لكنه لا يريد أن يقدم التنازلات المطلوبة، فيظهر أمام معسكره أنه عاد من حروبه مكسوراً بلا إنجازات غير ارتكاب مجازر ضد الإنسانية وملاحقة من القضاء الدولي لمسؤوليته عن كل أعمال الإبادة والتدمير التي طالت قطاع غزة، وهو حمل ليس هيناً بمعايير التاريخ الذي سيحاكمه أيضاً وسينصف ضحاياه وإن طال الزمن. وهناك تجارب كثيرة مثل هذه السيرة الدموية وقد انتهت إلى مصائر مأساوية.
الحلول العسكرية لا تحلّ الأزمات، بل تزيدها تعقيداً وتدفعها إلى مربعات أكثر تصعيداً وعنفاً. ومرة أخرى تقع المسؤولية على الدول الكبرى، التي انخرطت في تنافس شديد بينها، وتركت الأقاليم تواجه النزاعات والحروب، مثلما هو الحال في الشرق الأوسط، وما يشهده من حرب همجية في غزة متبوعة بانتهاكات إسرائيلية سافرة في المنطقة تشكل معاً أزمة مستعصية.
فمثل هذه الحروب لا تنتهي بالضربة الحاسمة لعدم وجود أهداف عسكرية يمكن استهدافها أو اجتثاثها، وعندها يتحول الصراع إلى مجرد مقتلة للأبرياء من دون أي عنوان، غير حرب إبادة تديرها كراهية مقيتة وعنصرية ليس لها أفق غير الغرق في وحل حروب لا تنتهي، وأمن سيظل مثل السراب في الأفق البعيد لا يحققه البطش العسكري أو الاستغراق في الأيديولوجيات البائدة التي لا تستقيم مع الواقع، ولا تستجيب للمستقبل وإن بدا الأمر في الحاضر غير ذلك.
(الخليج الإماراتية)