المؤلّفة من رموز التأليف اليساري في الساحة الأوروبية، حتى إنّ كُتُبها تُرجمت إلى أزيد من ثلاثين لغة حول العالم، ومنها "معمارية العقل: الغاية والوحدة المنهجية في نقد كانط للعقل المحض"؛ "العدالة العالمية: معنى الحزبية" (عمل مشترك مع جوناثان وايت)، أمّا أحدث أعمالها، فجاء تحت عنوان "حر: بلوغ سن الرشد في نهاية التاريخ"، وهي عضو هيئة تحرير مجلة "الفلسفة السياسية"، وتكتب عمودًا في صحيفة "الغارديان".. وفي ما يلي نصّ المقال مُعرَّبًا:
إنّ اللحظة التي منحتني الأمل عام 2023 هي اللحظة التي ظننتُ فيها أنّ كل الأمل قد فُقد. كان ذلك في صباح يوم الجمعة، في منتصف شهر أكتوبر، كنتُ قد بدأتُ للتو مع طلابي في استكشاف مقالة إيمانويل كانط عام 1784 "ما هو التنوير؟".
يميل غالبية الناس إلى التفكير في الأمل باعتباره موقفًا يقع في مكان ما بين الرغبة والإيمان: الرغبة في تحقيق نتيجة محددة، والإيمان بأنّ ثمّة شيء ما يُساعد على تحقيقها. نبحث عن الدليل في العالم لنرى إن كان يتوافق مع رغباتنا، وإذا وجدناه فسيكون بحوزتنا أمل، وإلّا فلا.
هل كان من البلاهة الاعتقاد بأنّ السياسة ممكن أن تبقى مسؤولة أمام الأخلاق؟
لكن الأمل، بالنسبة لي، يعني شيئًا مختلفًا. أن تكون متفائلًا لا علاقة له بكيفية سير العالم. إنّه نوعٌ من الواجب، وهو مكمّل ضروريٌ للأخلاق.
ما الفائدة من محاولة القيام بالشيء الصائب إذا لم يكن لدينا سبب للإيمان بأنّ الآخرين يفعلون الشيء ذاته؟ وما الفائدة من تحميل الآخرين المسؤوليّة إذا كنا نظنّ أنّ المسؤولية فوق طاقتهم؟.
الأمل عكس العدمية، ومن المفارقة أنّه كلما تحوّل العالم إلى الأسوأ، كلّما توجّب عليك أن تكون متفائلًا حتى تتمكّن من مواصلة الكفاح. إنّ التفاؤل لا يعني ضمان النتيجة الصحيحة، بل يعني الحفاظ على المبدأ الصحيح، أي المبدأ الذي يُعتمد عليه ليصير للعالم الأخلاقي معنى.
فماذا يعني في حالتي "فقدان الأمل"؟ وكان ذلك يعني فقدان الثقة في هذا المبدأ. في صفي كنتُ بمادة تاريخ الفكر السياسي أناقش شعار عصر التنوير: "تجرّأ على المعرفة، تجرأ على الحكمة"، وأبحثُ لماذا يُعرّفه كانط بأنّه "حالة الخروج من القصور الذهني". أن تفكر بنفسك، وأن تفكر في وضع نفسك مكان أي شخص آخر، بل وتفكر دائمًا باستمرار: هذه هي مبادئ التفكير المستنير، فهي ليست مجرّدة كما قلتُ للطلاب، وليست فردية أو مرتبطة بالوضع الراهن، بل هي على العكس من ذلك، ضرورية لسد الفجوة بين العالم الذي نعيش فيه والعالم الذي نتحمّل مسؤولية بنائه.
رأيتُ الطلاب يستغربون عبر تدوير أعينهم، بحيث يبدو كل هذا جميلًا، وقد استجمع أحد طلابي شجاعته أخيرًا، ليقول: كان كانط محظوظًا؛ لأنه عاش في عصر التنوير، على الأقلّ كان الناس يحبون هذا النوع من الأشياء في ذلك الزمن، بينما أشار آخر إلى أنه في القرن الثامن عشر لم تكن ثمة خوارزميات، ولا وسائل تواصل اجتماعي، ولا غُرف صدى الصوت، وبالتالي، كان ولا يزال ممكنًا الإيمان بالتنوير عبر الخطاب العام. وتحدثت طالبة ثالثة، هذه المرة من البلقان، قائلة: ما الذي يفعله عصر التنوير لنا، إذا كان عاجزًا عن مساعدتنا لوقف الإبادة الجماعية؟.
لقد ذكرني تدريس عصر التنوير أنه كلما صار العالم أسوأ، كلما صعب عليك التمسك بمبادئك.
ألقيتُ نظرة إلى شرائح "الباور بوينت"، فكل ما قلته حتى تلك اللحظة بدا مدعاةً للسخرية. هناك فجوة كبيرة بين العالم الذي قرأتُ عنه وعلّمتُه وآمنتُ به، والعالم الذي عشتُ فيه. في كل صباح كنت أتفحص في حسابي على وسائل التواصل الاجتماعي، محاولة فهم الأخبار، وكل ما وجدته هو الجهود المبذولة لإقناع العالم بأنّ قتل المدنيين الأبرياء يجد أحيانًا قَبولًا لدى بعض الناس، في ظلّ ظروف معيّنة. فهل كان من البلاهة الاعتقاد بأنّ السياسة ممكن أن تبقى، على مستوى ما، مسؤولة أمام الأخلاق؟.
مَن يُهمّشون أو يُقمعون أو يُتركون عرضة للموت يحاولون التأقلم ويكافحون
لم يكن المأزق هنا في كوني لم أسأل نفسي هذه الأسئلة من قبل. الأهم من ذلك أنّه في كل مرة تأتي فيها الأسئلة، أُذكّر نفسي بالواجب الأخلاقي المتمثّل في الأمل، لكن هذه المرة فشل الأمر، لقد فقدتُ الإيمان بالعقل، وفقدتْ كلماتي القدرة على أن تكون بالنسبة لي، ذات معنى.
كيف تعافيت؟ حاولت أن أذكّر نفسي بوجهة نظري الخاصة في العالم. وكيف أنّ يأسي الوجودي ومعضلاتي الفلسفيّة وأسئلتي، كل ذلك تحول إلى شرفٍ لي. إنّ الناس الذي يعانون من الظلم، ومَن يتحمّلون الإهانات اليومية لكرامتهم، ومَن يُهمّشون أو يُقمعون أو يُستغلون أو يُتركون عرضة للموت أو يُقتلون، هؤلاء عاجزون عن أن يسألوا أنفسهم عما إذا كان لديهم أمل! إنّهم يتشبّثون بالحياة، ويحاولون التأقلم، ويكافحون. إنّ نضالهم المتواصل، مهما كان شكله، لا يمكنه أن يتحمّل فقدان الإيمان.
أما بقيّتُنا، فأقلّ ما يمكنهم أن يفعلوه هو تجنّب التشكيك في أسباب الأمل، والاهتمام أكثر بأنفسنا. ولعلّ المعنى السياسي والحقيقي للتنوير يكمن في التساؤل: "ما إذا كان ثمّة أمل أم لا"، هو مجرّد سؤال مهم لمن لديهم شرفُ الشك فيه. وهذه نسبةٌ ضئيلةٌ في العالم.
(خاص "عروبة 22")