التجارب التي بدأها جيش الإحتلال الإسرائيلي الشهر الفائت تمت دون الإعلان عن حجم وكميات المياه المستخدمة أو قدرات الضغط المعتمدة في عمليات ضخ المياه عبر شبكات الأنفاق المعقدة التي لم تستطع إسرائيل تقديم أي معلومات بشأنها بعد نحو 80 يومًا منذ بدء العمليات البرية داخل القطاع.
تشير التقديرات الفنية إلى ضرورة استخدام مضخات ذات قدرة ضغط عالية ليس لإغراق فتحات الأنفاق فقط، ولكن لتدمير الجدران الأسمنتية والتحصينات القوية والأبواب المعدنية المتوقع أن تكون "حماس" وباقي فصائل المقاومة قد استخدمتها لتأمين شبكة الأنفاق المعقدة.
وكان الجيش الإسرائيلي قد قام بتركيب مضخات للمياه في مخيم الشاطئ على الساحل الشرقي لقطاع غزّة خلال تجارب ضخ مياه البحر في الأنفاق، لكنّ صورًا للأقمار الصناعية تناقلتها وسائل إعلام غربية أكدت أنّ المياه تم ضخها في الشبكة الجوفية وليس في الأنفاق التي تستخدمها فصائل المقاومة مقرًا لعملياتها الهجومية والدفاعية ضد القوات البرية الإسرائيلية، ما يطرح تساؤلات حول الهدف الرئيسي من إغراق أحياء قطاع غزّة المحاصر والمحروم من إمدادات المياه النظيفة بمياه البحر المالحة.
وفقًا لبيانات الاستيراد والتصدير في قطاع المياه بإسرائيل، تم استيراد ما يقارب 1300 شحنة مضخات مياه ذات قدرات مختلفة من الهند وتركيا والصين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بينما تسيطر شركات إسرائيلية محلية على الإنتاج الذاتي والتطوير الصناعي لمحطات ضخمة من رفع وضخ المياه في المدن والبلدات الفلسطينية المحتلة، حيث نشرت شركة "AGM" الإسرائيلية المتخصصة في تصنيع وصيانة واستيراد مضخات المياه والصرف الصحي عن بدء عدد من الأعمال قرب قطاع غزّة من خلال التزويد بالأنابيب والمضخات ومواد بناء من الفولاذ المقاوم للصدأ، ومحركات كهربائية ذات حماية لتأمين عمل مضخات الحفر تحت الماء، فيما جرى تداول معلومات عن تكليفات لمكاتب هندسية إسرائيلية لتقديم حلول وبدائل لدعم تصميم مضخات لدفع المياه لمسافات طويلة داخل الآبار الجوفية.
تدمير المياه الجوفية
وتشير التقديرات إلى أنّ أيّ عمليات ضخ لمياه البحر المالحة داخل الأنفاق ستتقاطع بشكل حتمي مع التربة الرملية المسامية داخل قطاع غزّة، وبالتالي تتسرّب إلى طبقة المياه الجوفية التي تشكّل المصدر الأساسي والأول لإمدادات المياه لسكان القطاع الذي يعاني أساسًا من مشاكل عدة، منها التلوث والتملح نتيجة تسرّب مياه البحر، وكثرة عمليات السحب للوفاء بالاحتياجات المختلفة للسكان من مياه الشرب والزراعة وغيرها داخل القطاع المحاصر والمكتظ بالسكان.
أطلقت عدة منظمات دولية معنية بقضايا المياه تحذيرات من التأثيرات السلبية المحتملة لتجارب إغراق أنفاق غزّة بمياه البحر وتأثيرها على طبقة المياه الجوفية الساحلية، وبالتالي تدمير كافة الأنشطة الإنسانية والزراعية وتهديد استخدامات المياه الجوفية.
وقال خطاب موجّه من المجلس العربي للمياه إلى جامعة الدول العربية إنّ "العمل الإجرامى الذي تقوم قوات الاحتلال الصهيوني به، من إغراق لأنفاق غزّة بضخ مياه البحر الأبيض المتوسط المالحة فيها بواسطة مضخات كبيرة، سيؤثر بشكل مباشر على المياه الجوفية والخزان الجوفي للمياه العذبة بها وهو المصدر الوحيد لمياه الشرب والزراعة بالمنطقة". وحذر المجلس العربي للمياه من أنّ "تدهور نوعية مياه الخزانات الجوفية وزيادة ملوحتها نتيجة خلط مياه البحر المالحة سيجعل معالجة هذه النوعية مستحيلة، فضلًا عن اضطراب النظام البيئي وتعطيل النظم البيئية المحلية مما يؤثر على السواحل البحرية والبرية".
ومن المتوقع أن تتسبّب عمليات الإغراق أيضًا في تحولات بالتنوع البيولوجي واحتمال فقدان الأنواع العديدة من السلالات، مبيّنًا أنّ تسرّب مياه البحر إلى الأنفاق سوف يؤدي إلى تملح التربة في المناطق الزراعية المجاورة، ما سيؤثر بالتبعية على نمو النباتات وامتصاص العناصر الغذائية، وهو ما سيقلّل من الإنتاجية الزراعية، مشكّلًا تهديدًا كبيرًا لإنتاجية المحاصيل والثروة الحيوانية وسبل العيش في القطاع والمنطقة.
أمن مائي مهدّد
يعاني قطاع غزّة المحاصر من قبل الاحتلال الإسرائيلي من وضع مائي كارثي، حيث تشير التقديرات إلى توافر أقل من 4% من الاحتياجات المائية الصالحة للاستهلاك البشري في القطاع قبل عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على سكان القطاع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتعد المياه الجوفية هي المصدر الطبيعي الوحيد للمياه العذبة في غزّة، حيث يتم سحب المياه من الحوض الجوفي الساحلي، الذي يقع أسفل القطاع، بمعدل يتجاوز ثلاثة أضعاف المعدل المستدام، إذ كان يتم سحب حوالى 200 مليون متر مكعب سنويًا في مقابل الكميات المسموح بها دوليًا لاستدامة أحواض المياه الجوفية والمقدرة بـ57 مليون متر مكعب من المياه سنويًا.
وتسبب الاستخدام الكثيف والطلب المتزايد على مياه الحوض الجوفي الساحلي في تسرّب مياه البحر وتدهور نوعية المياة الجوفية، حيث كانت المياه المتدفقة للمنازل مالحة ويصعب استخدامها في أغراض الشرب، أو إعادة معالجتها مع الإمكانيات المحدودة في القطاع.
واليوم، تشهد مناطق واسعة من أحياء قطاع غزّة حالة عطش ونقص حاد في المياه نتيجة القصف الإسرائيلي المستمر، لا سيما وأنّ إسرائيل تستخدم المياه كسلاح في مواجهة الفلسطينيين فأغلقت أنابيب المياه التي كانت تزودها شركة المياه الإسرائيلية "ميكروت" في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فضلًا عن منع إمدادات الوقود، بالتالي توقفت محطات المياه داخل القطاع عن العمل تزامنًا مع استمرار عمليات القصف التي استهدفت البنى التحتية وشملت استهداف خزان المياه الرئيسي في منطقة تل الزعتر شمال غزّة.
مخاطر على دول الجوار
وتشير بعض التقديرات أنّ تجارب إسرائيل لإغراق أنفاق غزّة لن يقتصر تأثيرها على المخزون الجوفي داخل القطاع فقط، إنما ستؤثر أيضًا على إمدادات ونوعية المياه الجوفية في دول الجوار بخاصة في سيناء بمصر، حيث يمتد الخزان الجوفي المار بقطاع غزّة من سلسلة جبال الكرمل في الشمال إلى شبه جزيرة سيناء في الجنوب، ويعاني من نظام بيئي متدهور في القطاع، ما ينذر بالتالي بمخاطر تحيط باستخدام الخزان بشكل آمن في أي من المناطق المار بها.
وتعتمد مناطق عديدة في سيناء من مدن رفح والشيخ زويد والعربش على الخزان الجوفي، حيث يتم استخدام المياه الجوفية بمنطقة الشريط الساحلي العريش/ رفح لمسافات تصل إلى 20 كم، حيث تُعد المياه الجوفية في شمال سيناء من أهم مصادر المياه بالمحافظة لتوفير احتياجات الزراعة والري والشرب والاستخدامات المنزلية، فيما تقوم إدارات المياه في مصر بتقليل نسب الملوحة ومعالجة المياه المستخرجة من الخزان الجوفي القريب من العريش لضمان الاستخدام البشري الآمن.
ويزيد استمرار التجارب الإسرائيلية لضخ مزيد من كميات المياه المالحة لطبقات المياه الجوفية، الشكوك حول مدى تجاوز هذه الخطة للهدف المعلن عنه بـ"تدمير مقرات قيادة حماس"، إذ صارت نوايا تل أبيب واضحة لناحية تعمّد استهداف وتدمير البنى التحتية ومصادر الحياة بشكل عام في قطاع غزّة، وصولًا إلى التلويث المتعمّد لمصدر المياه العذبة الوحيد في القطاع، وسط تواطؤ دولي وصمت عربي مثير للريبة.
(خاص "عروبة 22")