مع بداية العمليات التاريخية غير المسبوقة للمقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأصوات غربية، وربما عربية، تحاول أن تنزع عنها فلسطينيتها وانطلاقها من قلب المعاناة الفلسطينية مع الاحتلال والتجبّر الصهيوني، ليصبح الأمر وكأنّ الصراع في أصله إسرائيليًا إيرانيًا، الفلسطينيون فيه مجرد جملة اعتراضية.
وإيران رغم كل ما حشدته من شعبية في المنطقة بوصفها "راعي محور المقاومة وقائده"، والعدو الأهم والأخطر لإسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة الأمريكية، وقفت ترقص في منتصف سلم السياسة، لا هي تؤكد انخراطها في الصراع كما تفعل أطراف غربية وعلى رأسها واشنطن مع إسرائيل، ولا هي تنفي ضلوعها بأي شكل في العمليات الجارية على الأرض، وفي الوقت نفسه تملأ الفضاءات بتصريحات نارية متوعّدة وتتحدث عن الزناد الجاهز للانخراط والدعم المباشر للمقاومة.
تطايرت على طهران حمم بركان غزّة الحارقة كما تطايرت على قوى عربية وإقليمية أخرى
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدا أنّ ما يمكن وصفه بالصراع الإيراني الإسرائيلي فيه الكثير من القواعد التي بدت واضحة وشبه معلنة، وعلى رأس تلك القواعد أن يظلّ يدور في إطار شكلاني خطابي، وإن تطوّر إلى ضربات محددة المكان والتأثير تبقى في حدود التناوش الذي لا يجب ولا يمكن أن يتطور إلى اشتباك مباشر في أي وقت من الأوقات.
لذلك تطايرت على طهران حمم بركان غزّة الحارقة، كما تطايرت على قوى عربية وإقليمية أخرى، كل منها بشكل أو بآخر، مع تزايد تلك المشاهد الصعبة وغير المسبوقة إنسانيًا والتي تأتي من غزّة على الهواء مباشرة، وعجز النظام العربي الفاضح عن بناء أي حد أدنى من التوافق لدعم غزّة ومقاومتها وشعبها وقضيتها عبر خطاب فيه على الأقل من الخشونة ما يعوّض عجز الفعل وتفتت أدوات الضغط والفعالية.
أصبحت كل الرهانات على طهران، وهي رهانات تنسجم مع خطابها ورفعها المتزايد لسقف التوقعات منها في مثل هذه المحنة، سواء أمام الشارع الإيراني نفسه المتعاطف والغاضب مما يجري للفلسطينيين في غزّة، أو أمام الشارع العربي الذي دفعته الخطابية الشكلانية الإيرانية إلى التعلق برداء "الحرس الثوري" لعل قطرة واحدة من الجحيم الذي يتوعد به تل أبيب يوميًا تصب عليها مرة فتحدث فارقًا في ميزان الصراع العسكري يلجم بأي شكل حجم التضحيات الكبرى التي يقدّمها أهل غزّة على مدار الساعة.
لكن إيران تتلقى ضربة مباشرة في إطار قواعد الاشتباك شبه المعلنة باغتيال القيادي في "الحرس الثوري" رضي موسوي بالقرب من العاصمة السورية دمشق، عبر ثلاثة صواريخ إسرائيلية استهدفت منزله.
هنا تُطبق لحظة غزّة على النظام الإيراني الذي حشد من خلفه رأيًا عامًا كبيرًا في الداخل والخارج لا يبحث فقط عن الرد المزلزل لكنه يتطلع للمبادرة والهجوم، ولا بد من احتواء هذا الشارع في إطار شكلاني.
اغتيال موسوي يختلف عن اغتيال سليماني رغم أهمية ورمزية الأخير، أولًا لأنّ الأول تم بضربة إسرائيلية مباشرة وليست أمريكية، ويمكن القول إن عمليات كثيرة في المنطقة تستهدف القوات الأمريكية مباشرة تصب في سياق الرد والانتقام له، والفارق الأهم أنّ اغتيال موسوي يأتي في سياق الحرب الإجرامية على غزة وسط استنفار عربي وإسلامي وإيراني كبير، يجعل المواجهة متوقعة جماهيريًا، والرد المزلزل مُنتَظرًا.
كان مهمًا إذن أن يعيد "الحرس الثوري" التأكيد على أنه "يرد"، وأنه ليس بعيدًا عما يلحق بإسرائيل من خسائر فادحة وغير مسبوقة في حربها العدوانية ضد غزّة، فجاء حديث المتحدث الرسمي موجهًا للشارع العربي الإسلامي والإيراني في الداخل، وجاء النفي التالي من قيادة "الحرس الثوري"، لإعادة وزن الأمور مع الغرب وإسرائيل في تأكيد جديد على ابتعاد طهران عن هذه العملية، وما أرسلته من تطمينات وتصريحات تؤكد أنها غير منخرطة ولن تنخرط في مواجهة مباشرة تؤدي لتوسيع نطاق الصراع.
ما تطلبه غزّة من الصديق الإيراني "انخراط حقيقي في المواجهة أو ترك تضحيات الفلسطينيين تجلب نصرها بنفسها"
لا يمكن الزعم بأنّ إيران بعيدة عن دعم المقاومة الفلسطينية سياسيًا ولوجستيًا على مدار سنوات، لكن زلزال 7 أكتوبر/تشرين الأول وما أحدثه من صدمة داخل إسرائيل وبين حلفائها لا يمكن لها تبنيه بأي حال، وخرق قواعد إدارة الصراع المتبعة، لتبقى الشكلانية السياسية خطابًا موجهًا للشعوب في داخل إيران وخارجه.
لكن مع توسم الجماهير العريضة في إيران والعالمين العربي والإسلامي تحركًا مختلفًا هذه المرة في نصر عملي للقدس وفلسطين بعد عقود من الانتصارات الشكلانية الخطابية، بدا الجميع منزعجًا من محاولة المتحدث باسم "الحرس الثوري" تأميم تضحيات الفلسطينيين في غزّة، بعد مائة يوم إلا قليلًا من هذه الحرب البشعة، وكأنها محاولة جديدة لإخراج الفلسطينيين من معادلة الصراع وإعادتهم جملة اعتراضية في قصة إيرانية إسرائيلية لا تتصاعد دراميًا ولا تنتهي، ما جعل استجابة النظام الإيراني الأعلى لهذا الانزعاج جاء سريعًا بالنفي وإعادة الاعتبار لـ"طوفان الأقصى"، كعملية نابعة من قلب الألم الفلسطيني ومن أجل الأمل الفلسطيني، لتبدو الرسالة الواضحة من وراء هذا الارتباك داخل طهران ورد فعل الشارعين العربي والإسلامي عليها أنه مع كل التقدير للدعم الإيراني للقضية، فما تطلبه غزّة من الصديق الإيراني اليوم "انخراط حقيقي في الصراع والمواجهة، أو ترك تضحيات الفلسطينيين تجلب نصرها بنفسها ولنفسها".. أما الشكلانية السياسية فلا مستقبل لها بعد هذه الحرب.
(خاص "عروبة 22")