اقتصاد ومال

تحديات تدبير النفط في الخليج العربي: مفاتيح عملية

محمد زاوي

المشاركة

بدأ اكتشاف النفط في الخليج العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، واستمر التنقيب ومعه الاكتشافات النفطية لتصبح دول الخليج أكثر الدول إنتاجًا للبترول وتصديره إلى كبريات الدول في العالم كاليابان والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية. ومعلوم أنّ هذه الثورة النفطية ساهمت في جلب العملة الصعبة لدولها، إلّا أنّها طرحت مشاكل جديدة، منها ما هو مرتبط بالسياسات الاقتصادية الدولية، ومنها ما هو مرتبط باقتصاديات دول الخليج نفسها.

تحديات تدبير النفط في الخليج العربي: مفاتيح عملية

معلوم أيضًا، أنّ دول الخليج تنتمي لدول الجنوب، وهذه محكومة بما يُصطلح عليه "التقسيم الدولي للعمل"، أي التقسيم الدولي للتصدير والاستيراد، للتصنيع والاختراع، للإنتاج والاستهلاك، وهذا هو التحدي الأكبر لدول الخليج، إذ تتصارع ضد عدّة قلاقل في سياق التصرّف في ثروتها النفطية، بحكم ما يفرضه "التقسيم الدولي" من جهة، وبحكم واقعها الاقتصادي الداخلي من جهة أخرى، وهذا يتطلّب التوقف عند محدّدين اثنين على الأقل:

ــ حدود "التقسيم الدولي": منذ سبعينيات القرن الماضي، ربطت الولايات المتحدة الأمريكية عملتها (الدولار) بالبترول بدل الذهب، ومن هنا أصبحنا نتحدث عن البترودولار. ونتيجة لذلك، نزعت الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها حلفاؤها الغربيون، إلى إخضاع إنتاج النفط في الخليج العربي لسياساتها الاقتصادية، أي لمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في العالم.

التكنولوجيا الزراعية والصناعية للتغلّب على ندرة المياه وصعوبة التنقيب ومشاكل ربط التصنيع بمصادر المادة الأولية

وحتى يتحقّق ذلك فإنّ دول الخليج مطالبة من جهة بالإنتاج حسب الطلب الأمريكي، ومن جهة أخرى بالانضباط للسياسات الاقتصادية التي تضعها أمريكا ومؤسّساتها، وهي سياسات مؤداها عرقلة تطوير الصناعات النفطية، وكذا كبح تقدّم الاقتصادات غير النفطية.

ــ حدود الواقع الاقتصادي الداخلي: على المستوى الداخلي، ولتطوير قدراتها الاقتصادية الوطنية، تحتاج دول الخليج إلى تطوير اقتصاداتها غير النفطية من جهة، كما هي في حاجة إلى تطوير الاقتصاد النفطي نفسه، ويحتاج ذلك إلى تطوّر في عمق البنية الاقتصادية لدول الخليج، من الزراعة إلى الصناعة الذكية، ومن الرأسمال الزراعي إلى الرأسمال الإلكتروني والشبكي.

صحيح أنّ دول الخليج تستطيع استثمار عائدات النفط في ذلك، لكن الأمر يتطلّب فورة في التكنولوجيا والتقنية الزراعية والصناعية للتغلّب على مشاكل الصحراء وندرة المياه وصعوبة التنقيب من جهة، إضافة إلى مشاكل التصنيع ومن أبرزها ربط هذا الأخير بمصادر المادة الأولية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التكنولوجيا محتكرة في إطار "التقسيم" المذكور أعلاه، وأنّ نقلها مكلّفٌ، والاستفادة من منتجاتها تكرّس التخلّف التقني من حيث الابتكار.

تأسيسًا على ما سبق، نزعم أنّ المطلوب من دول الخليج في ظل هذه الظروف المركّبة، يمكن حصره في عدة مخارج عملية، نتوقف هنا عند اثنين منها:

ــ استثمار الشرط الدولي: إنّ تراجع الولايات المتحدة الأمريكية في ميزان القوى الدولي، يترك لدول الخليج حيّزًا إضافيًا من حريّة القرار السياسي والاقتصادي، ممّا ينعكس على قراراتها الداخلية، ثم على علاقاتها ببعضها البعض، وينعكس أيضًا على علاقتها بباقي الدول العظمى والتكتلات الدولية الكبرى. وهكذا، فالمخططات الاقتصادية التي كانت في حيّز التجميد، أو كانت تكبحها الضغوط الغربية، من شأنها أن تخرج اليوم للعلن.

المشاكل الخليجية - الخليجية أو الخليجية - العربية التي كانت تعرقل التعاون والتنسيق والتكامل الاقتصادي، تخفّ حدتها، مِمّا يتيح فرصًا أكبر لتضافر الجهود وتبادل الخبرات وتكامل الاقتصادات.

المطلوب استهداف الإنتاج المتجدد المرتكز على الإنسان بما هو المصدر الحقيقي للثروة

أمّا التكنولوجيا المحاصرة غربيًا، ومعها الخبرة الممنوعة عن دول الخليج وباقي الدول العربية، فمن شأن العلاقة بالصين أو روسيا أن تتيحها، وبهذه البدائل، يمكن استثمار الشرط الدولي للتحرير النوعي للصناعات النفطية من جهة، وتحرير باقي الاقتصادات من جهة ثانية.

ــ وضع خطة للتنويع الاقتصادي: مطلوب في هذا السياق استهداف الإنتاج المتجدد بشكل أساسي، وهو الإنتاج المرتكز على الإنسان بما هو المصدر الحقيقي للثروة.

الدولة الخليجية باحتكارها للتخطيط، في نموذج دولة التخطيط الاقتصادي، مطالبة بالتسريع من وتيرة إدماج الإنسان في رأسمالها سواء في الشركات العامة، أو تلك الخاصّة، وهذا يحتاج نوعًا من إصلاح الرأسمال نفسه عن طريق التخطيط كما تقدّم.

مضمون هذا الإصلاح هو الاستثمار بالأساس في المنتج المفيد للاقتصاد الوطني، وليس في المربح على حساب مصالح الدولة وأولوياتها. ويتم أيضًا بالتقليل ما أمكن من التهرّب الضريبي والاستهلاك الفاحش.

ثم إنّ الإنتاج المرتكز على الإنسان يوفّر حاجياته الأساسية من عيش وتطبيب وتعليم أولًا، ثم يموّل مشاريع الاختراع والابتكار والاستثمار في التكنولوجيات المتقدمة.

النفط ثروة مهمة، وأهم منه ثروة الإنسان، أهم "فاعل في الزمن" منذ بداية التاريخ. كل إصلاح في سياسة النفط العربية يجب أن يستحضر ما يمكن أن يقدّمه الإنسان العربي لاقتصاد يعيش منه، وما يمكن أن يقدّمه الإنسان نفسه أيضًا لدولة تحميه وتحفظ حقوقه واستقلال وطنه. ستجني دول النفط النتيجة المرجوة إذا استثمرت الشروط الحالية للتركيب بين سياسة حازمة وناجعة، وثروة كافية، وخبرة ويد عاملة عربية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن