حالَ تنفيذ ترامب لوعيده، بحظر تصدير النفط الروسي، سيصبح وضع النفط الروسي مشابهًا للنفط الإيراني، وسيكون لذلك تداعيات استراتيجية واقتصادية كبيرة على دول العالم، خصوصًا الصين وتركيا والهند والاتحاد الأوروبي والبرازيل، وهي الدول التي تُمثل بالترتيب أكبر مستوردي الطاقة الروسية، ولكن سيكون له انعكاسات كبيرة أيضًا على العالم العربي.
وكانت نجاة اقتصاد روسيا من العقوبات الغربية أكبر مفاجآت حرب أوكرانيا، بعد مفاجأة إخفاقها وهي القوة العظمى الثانية في العالم في تدمير جيش أوكرانيا، القوة الإقليمية المتوسطة.
الذي حمى روسيا من تأثير العقوبات هو تحويل صادراتها من الطاقة إلى الصين والهند
فعلى الرَّغم من وصف هذه العقوبات بأنّها الأكبر في التاريخ، إلّا أنّ الاقتصاد الروسي لم ينهر، بل على العكس حقق نموًّا كبيرًا بفضل احتياطات البلاد المالية، واستبدال جزءٍ من واردات الغرب بمنتجات روسية وصينية، إضافةً إلى توسّع الصناعات الحربيّة وأجور المجنّدين وارتفاع أسعار النفط والغاز عالميّا.
ولكن العامل الأهم الذي حمى روسيا من تأثير العقوبات هو تحويلها لصادراتها من الطاقة من أسواقها التقليدية في أوروبا إلى الصين والهند، وظهر ذلك بشكلٍ كبيرٍ في النفط نظرًا لمرونة نقله، مقابل اعتماد الغاز على الأنابيب ومنشآت التغويز والتسييل.
جرّاء ذلك، حدث تغيّر لافت في سوق النفط العالمية حيث أصبحت مبيعات النفط الروسي تتركّز في آسيا، حتّى لو كانت أرخص من السعر العالمي (بنحو 6 إلى 10 دولارات) مقابل زيادة مبيعات نفط الشرق الأوسط وأميركا الشمالية في أوروبا.
وكانت قيمة إجمالي صادرات روسيا السلعيّة في 2024 حوالى 433.9 مليار دولار (بزيادة 1.4% عن العام السابق)، منها نحو 327.8 مليار دولار من النفط والغاز والفحم والمعادن ومنتجاتها المصنّعة بنسبةٍ تُقدّر بنحو 75.5% من إجمالي صادرات البلاد.
سيكون لقرار ترامب المحتمل تداعيات سياسية واقتصادية على الصين والهند وتركيا
وبلغ متوسط صادرات النفط الخام الروسية في 2024 حوالى 4.6 ملايين برميل يوميًا (مقابل نحو 5.9 ملايين للسعودية)، وقُدِّرَت عائدات تصدير النفط الروسي ومنتجاته بنحو 192 مليار دولار في 2024، حسبما نقلت "رويترز" عن الوكالة الدولية للطاقة.
واستوردت الصين نحو 47% من صادرات النفط الروسية (حوالى 2.17 مليون برميل يوميًا)، في مارس/آذار 2025 مقابل نحو 37% للهند وحوالى 6% لتركيا، أي إنّ الدول الثلاث تستقبل نحو 90% من صادرات النفط الروسي بقيمة تدور حول 170 مليار دولار.
بيانات الغاز أقلّ وضوحًا، ولكن وفقًا لحساباتٍ أجريت بالذكاء الاصطناعي استندت إلى مواقع تُتابع الإنتاج الروسي، تدور صادرات موسكو من الغاز إلى الصين وتركيا حول 30 مليار دولار (علمًا أنّ الاتحاد الأوروبي هو أكبر مستورد للغاز الروسي).
ويشير ما سبق إلى أنّ واردات الصين والهند وتركيا من الطاقة الروسية تدور حول 200 مليار دولار تُمثّل نحو 45% من إجمالي صادرات روسيا في 2024. وحظرُ جزءٍ كبيرٍ من هذه الصادرات سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد الروسي ولا سيما أنّ صادرات الطاقة تتّسم بهامش ربحٍ عالٍ مقارنةً بالتكاليف لا سيما النفط، ممّا يعني أنّ تراجعها يكون له تأثير مباشر على ميزانية البلاد، خصوصًا أنّ ذلك يتزامن مع تراجع الاحتياطيّات المالية الروسية الضخمة التي جمّد الغرب جزءًا منها، فيما استهلكت موسكو جزءًا آخر لتمويل الحرب.
وكان الاتحاد الأوروبي قد وضع عقوبات إضافية في نهاية 2022 تفرض حدًّا أقصى لسعر صادرات النفط الروسي لدول العالم كلّها يبلغ 60 دولارًا، وذلك عبر إلزام شركات التمويل والشحن والتأمين الدولية بعدم التعامل مع الشحنات الروسية، حتّى المُصدّرة لدولٍ غير أوروبيةٍ إلّا إذا كانت أدنى من هذا السعر، وأدّى ذلك إلى تراجع إيرادات التصدير الروسية بنسبة 11% (38.08 مليار يورو).
ومن شأن تخفيض الحدّ الأقصى للسعر بمقدار 30 دولارًا إضافيةً أن يُخفّض إيرادات صادرات النفط الروسية بنسبة 40%، حسب تقريرٍ لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف في فنلندا.
قد يؤدّي القرار إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز وزيادة إنتاج الدول العربية منهما
سيكون لقرار ترامب المحتمل تداعيات سياسية واقتصادية على الصين والهند وتركيا، فإمّا الرضوخ المُهين والذي سيشكّل سابقةً قابلةً للتكرار، كما أنّه سيفقدها النفط الروسي الرخيص إضافةً إلى احتمال تخفيض موسكو لوارداتها السلعيّة من الدول الثلاث، الأمر الذي يُمثّل مشكلةً كبيرةً خاصةً للصين التي ازداد اعتمادها على التصدير لموسكو جرّاء التضييق عليها في الأسواق الغربية، وكذلك لتركيا التي تُمثّل روسيا سوقًا سياحيةً وتجاريةً مهمّةً لها. وإمّا رفض هذا القرار المُحتمل ما قد يعني التعرّض لتعريفات أميركية مُغلّظة، وفي الأغلب ستتعامل البلدان الثلاثة مع الأمر بطريقة تعاملها مع الحظر الأميركي على استيراد النفط الإيراني، عبر إدانته رسميًا والالتزام به فعليًّا مع الاستمرار في استيراد النفط الروسي بمعدّلٍ أقلّ وبشكلٍ شبه سرّي وبأسعارٍ أرخص عبر شركاتٍ معزولةٍ عن النظام الاقتصادي الغربي، لكي يتسنّى لها تحمّل العقوبات مع زيادة الواردات إذا خفّ الضغط الأميركي، كما تفعل الصين حاليًا مع النفط الإيراني.
أما بالنسبة إلى العالم العربي، فستكون النتائج مختلطةً، فمن الناحية السياسية والعسكرية سيُمثّل القرار ضغطًا على الدول العربية التي حاولت البقاء على الحياد، للابتعاد عن روسيا، وهو ما قد يُمثّل مشكلةً خاصةً لبلدٍ مثل الجزائر التي تُعدّ روسيا مورد الأسلحة الأوّل لها.
إذا نفّذ ترامب تهديداته فقد يخلق ذلك فرصًا لبعض الدول ولكن سيتسبّب أكثر بفوضى اقتصادية وسياسية
ومن الناحية الاقتصادية، قد يؤدّي القرار إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز، وزيادة إنتاج الدول العربية منهما، ودول الخليج هي الأكثر قدرة على تعويضٍ ولو جزئي لصادرات روسيا الضخمة بينما ستكون زيادة الإنتاج أبطأ في حالة الغاز. وهذا سيكون مفيدًا للدول العربية الغنيّة بالطاقة، وسيُعزّز دور العالم العربي كمصدرٍ للهيدروكربونات، ولكن في المقابل ستضغط زيادة أسعار النفط على موازين المدفوعات للدول العربية المستورِدة للطاقة، وقد تُحدث موجة تضخّم عالمية وأزمات مشابهة لتلك التي حدثت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
في كلّ الأحوال، إذا نفّذ ترامب تهديداته فقد يخلق ذلك فرصًا لبعض الدول، ولكن سيتسبّب أكثر بفوضى اقتصادية وسياسية كبيرة، خصوصًا أنّه لم يعرف بعد شكل ردّ الفعل الروسي وانعكاسات ذلك على الأمن في أوروبا والشرق الأوسط.
والأهمّ أنّ مثل هذا القرار سيُعبّر عن مستوى جديد من العجرفة الأميركيّة التي تُمثّل تحدّيًا لكلّ الدول والكتل الرئيسية في العالم بما فيها الوطن العربي، الأمر الذي لا يستلزم فقط تنسيقًا إقليميًا، بل دوليًا أيضًا، وإلا ستجد هذه الدول والكتل نفسها تباعًا عرضةً لهذه الممارسات.
(خاص "عروبة 22")