وإذا كان هذا القرار يعود إلى المرجعية التي أطلق عليها الموساد "عملية غضب الله" في بداية الخمسينات والتّي ترسّخت كمنهج في بداية السبعينات مع ما يُعرف "عملية ميونيخ" في عهد "غولدا مائير"، فإنّه الآن يختلف مضمونًا ودلالةً عن قرارات التصفيات السّابقة المنظّمة ضدّ قادة المقاومة. لأن هذا القرار اندفاعي يأخذ معنى الهروب إلى الأمام باعتباره ناتجًا عن هزيمة حرب حقيقية للجيش الإسرائيلي وفشل مخابراته التي كانت إسرائيل تزعم تفوّقها في ضبط تحرّكات المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها. على عكس الاغتيالات السّابقة التّي كانت ردود أفعال ضدّ عمليات محدودة للمقاومة كاختطاف إسرائيليين كما حدث 1972، أو عمليات فدائية عابرة.
"نيويورك تايمز" الأمريكية تضع نفسها في شبهة التّرويج للإرهاب والتّبشير به
غاب عن إسرائيل وهي تلجأ إلى عملية "غضب الله" جديدة، أنّ الأوضاع اليوم قد تغيّرت جذريًا وأنّها تستنجد بمنهج قديم متهالك في مواجهة مقاومة حديثة ومتطوّرة ألحقت بها هزيمة نكراء لم تشهد لها مثيلًا منذ احتلالها البغيض لفلسطين. كما تناست أنّ الآلة الإعلامية التي كانت تخفي من ورائها كذبها وجرائمها قد سقطت وانكشف بهتانها، وأنّ وسائل التواصل الاجتماعية قد عرّت خبث أيديولوجيتها النّاسخة، بعقدة تاريخية، همجية الأيديولوجية النّازية القائمة على تمجيد القتل والاغتيالات.
وإذا كانت جريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية تؤكّد على أنّ عملية الاغتيالات ستطال قياديين آخرين داخل القطاع وخارجه، وبتحيّز مفضوح، فإنّها بذلك لا تخوض حربًا نفسية بالوكالة، عبر التخويف بالاغتيال، ضدّ المقاومة ومناصريها فقط؛ وإنّما تُشرعِنُ للجريمة في سياق موقفها القاضي "بحق إسرائيل في الدّفاع عن نفسها". بذلك، فهي تضع نفسها بطرق غير مباشرة في موقع المضاد للشّرائع الدّولية وفي شبهة التّرويج للإرهاب والتّبشير به. لكن الجهات الدّولية المختصّة غضّت الطرف، أوّلًا، عن بشاعات إسرائيل في غزّة؛ وثانيًا لم تبالِ بجريمة الاغتيالات التي يمارسها "الموساد" وفعل التّبشير بها من طرف الوسائل الأيديولوجية لأمريكا، ومنها جريدة "نيويورك تايمز".
اغتيال العاروري بدون أي ردّ فعل من الهيئات القانونية الدّولية يؤسّس لسحب الثّقة من هذه الهيئات ومضمون شعاراتها
إنّ جرائم إسرائيل الموصوفة والمعلن عنها صراحةً، مقابل صمت الهيئات الدولية السّاهرة على الحقوق ومكافحة الإرهاب والجريمة، جعلت من هذه الهيئات الآن هياكل فارغة من أي معنى، بدليل أنّ الشّكاية التّي وضعتها جنوب أفريقيا لمقاضاة إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزّة تمّ رفضها، حسب مصادر مطّلعة، من طرف محكمة الجنايات الدّوليّة ذات الاختصاص في توقيف مرتكبي الجرائم والقبض عليهم، لأنّ المُدّعي العام لهذه المحكمة متحيّز لإسرائيل. لذلك تمّ تحويل الدّعوة من طرف بريتوريا إلى محكمة العدل الدّولية التي تدين فقط ولا سلطة لها في توقيف الجاني وسجنه.
يبقى، الآن، اغتيال العاروري، كفعل إرهابي مباشر من طرف إسرائيل، والإعلان الرّسمي عن أجندة اغتيالات لاحقة لقادة "حماس"، بدعم صارخ من طرف وسائل الإعلام الغربية وأمام مرأى ومسمع العالم وبدون أي تحرّك أو ردّ فعل من طرف الهيئات القانونية الدّولية، منعطفًا خطيرًا يؤسّس لسحب الثّقة من الهيئات الدّولية ومضمون شعاراتها الحقوقية والإنسانية.
(خاص "عروبة 22")