لئن كان ما نصفه بالأزمنة القوية، ما هي إلاّ فِعالُ قوية وحركات إنجازية نوعية، جسَّدها الإنسان في التَّاريخ، فإنَّنا نبصر أنَّ الفعل العربي المعاصر، الذي يمتلك الثّروة من الطَّاقات الطَّبيعية والطَّاقات البشرية، والأمكنة الجغرافية الحاوية على الخيرات المادية، لا يزال يعيش هذا الانفصال بين الزمن والحركة، الزَّمن في الدُّول القوية، يعيش نموًا كميًا وكيفيًا، فالتَّدبيرات السِّياسية أكثر رشادة، والعلوم كلُّ يوم في اكتشاف جديد، بينما هو ضديد هذه المكاسب في الفعل العربي المعاصر، فالتَّدبير السياسي لا حرية فيه، والعلوم في تخلّف وتقليد متناقضين، والتقنيات في تراكم وزبونية تابعة.
ولأجل هاتين الحالتين في العلاقة مع الزمن؛ لخَّص فيلسوف الحضارة الجزائري مالك بن نبي، علاقة الزمن بالإنسان قائلا: "الزَّمن نهر قديم يَعْبُر العالم منذ الأزل، فهو يمر خلال المدن يغذي نشاطها بطاقته الأبدية، أو يذلِّل نومها بأنشودة السَّاعات التي تذهب هباء، (وهو في) مجال ما يصير (ثروة)، وفي مجال آخر يتحوَّل عدما". وبالفعل، فالزَّمن هو ثروة وإنجاز بالنِّسبة إلى الشُّعوب الفاعلة، بينما هو فسحة للتلهِّي والعَطالة في مجتمعات أخرى.
أخطاء الفعل العربي في علاقته بالزّمن
1. خطأ التأمّلات الحزينة ونسيان وصية الفتيلة: تسود في الثقافة العربية أفكار خاطئة، تتعلَّق بنهاية الزمن والاتجاه نحو يوم نهاية العالم، لكنَّ هذا الفكر، ينسى ثقافة الفسيلة[1]، التي توحي إلى أهمية الغرس؛ حتىَّ في لحظة الاحتضار الكبرى للإنسانية، والغرس هنا، يعني غرس الأشجار، وبالتَّالي، الفعل الفردي أو الجماعي الذَّاتي الذي يكتسب قيمته من كونه فعلًا وحدثًا وإنجازًا.
لفعل عربي شمولي يغرس المعرفة في العقول والأخلاق في السلوك وحرية الإرادة في التدبير السياسي والاجتماعي
إنَّ الفعل العربي المعاصر، في امتساس الحاجة؛ إلى أن يُحَوِّلَ مفهوم الفَسيلة من فعل يخص غرس الأشجار، إلى فعل حضاري شمولي، يغرس المعرفة في العقول، ويغرس الأخلاق في السُّلُّوك، ويغرس حرية الإرادة في التَّدبير السٍّياسي والاجتماعي، ويُنَمِّي هذه الغِراس بالعناية؛ إذن، يمكن القول، إنّ التّأمُّلات الحزينة حول الزَّمن، هي نزعة نفسية كئيبة ومنعزلة عن العالم، فليس الزَّمن هو الحزين، بل إسقاط هذا الشُّعور النّفسي على التَّاريخ ، ونتيجته هي تراكم التخلُّف حتى يصبح تخلُّفا جٍذريًا!.
2. خطأ اللّحاَق بالغرب: إنَّ حركات الزَّمان ليست آليات منطقية أو أجسام مادية، إنما هي فَرَادَات روحية تَنْفُخُ في التَّاريخ من روحها، وهذا الأمر حَادِثُ مع الفعل العربي المعاصر، الذي يدعونا معرفيًا إلى تقليد طرائق التَّفكير الغربية، وهو عمليًا يمتصُّ القيم الشَّاردة منه. فالغرب يريد أن يُكْسِبَ شبابنا شروده الأخلاقي، ولا يريد لنا أن نُطَبِّق تدبيره السياسي.!
التَّواجُدَ في مسيرة التّاريخ لا يكون بتقليد خطى الأخرين إنما بتنمية الذاتية المعرفية والوعي الداخلي
إنَّ الزَّمن كما ميّز "هنري برغسون"، نوعان: زمن آلي، كَمي، وهناك الزَّمن النَّفسي، التَّابع لقدرة الطَّاقة الرُّوحية على التَّجاوز، لقد ظنَّ الوعي العربي، أنّ الغرب هو زمن آلي حسابي، فتوهّم أنَّه يمكن التَّسريع من أجل اللّحاق به، بينما الغرب هو طاقة من الوعي والسّعي التي تنفخ من روحها في التَّاريخ، هذه الطّاقة تتميَّز بالفَرَادة والأصالة، إنها طاقة الإيمان بالتقدّم كفعل نحو المستقبل؛ تلازمه مقولات العقلنة والتَّصيُّر نحو الأفضل والتعليم من أجل الحرية.
إن البديل من فكرة اللّحاق بالغرب، أن يؤمن الفعل العربي؛ بأنَّ التَّواجُدَ في مسيرة التّاريخ، لا يكون بتقليد خطى الأخرين التي سلكوها، فالزَّمان أصَالة لا تتكرّر، وأنفاس روحية لا تُشتَرى؛ وإنّما بفتح دروب جديدة، وهذا يقتضي ليس الانهمام بالغرب، وإنما تنمية الذَّاتية المعرفية والوعي الدَّاخلي، لأجل تجرية حضارية لها أيضًا فرادتها ونوعيّتها.
3. خطأ الاستعجالية الحضارية: لا شك بأنّ الاستعجال معجونة مع طينة الإنسانية، فما بالك عندما يتعلَّق الأمر بالاستعجالية الحضارية، لقد ساهمت ثورة الاعلام الجديدة في تقريب الصُّور والإبصار بين الشُّعوب، وشاهدت المجتمعات العربية، ذلك المستوى من الفعل الحضاري في التنظيم والعدل وتسهيل عالم الحياة، فاندفعت إلى مراكمة عالم الأشياء من الغرب، والاستزادة منه، لأجل أن تظهر وكأنّها في مستوى التقدُّم الحضاري. لكنَّ القانون التاريخي، يُقِرُّ بأنَّ الحضارة يجب أن تلد منتجاتها من ذاتها وليس من غيرها، أمّا مراكمة التقنيات وعوالم التكنولوجيا؛ فهي الوجه الآخر للعبودية الطوعية، فالعقل الذي لا يُنتج، سيعيش حياة الانتظار لما تقدّمه له القوى الاقتصادية التي تُنتج من ذاتها، وهي لا تبيع منتجات فقط، بل تضمّن روح المنتوج؛ وهو الأفكار والمذاهب الكامنة.
إنّ هذا الخطأ هو خطأ في فهم صيرورة الزَّمن، فليس الحال في نهضة الغرب الجامعية أو العلمية، أن نبني الجامعات ونتغنّـى بأعدادها، وننسى بأنّ الجامعات الغربية كانت من قبل محاريب للقراءة والتَّفكير ومخابر للاكتشاف، فالمنزع الكمي في التعديد حيلة من حيل الاستبداد السياسي من أجل تبرير حكمه والبقاء فيه. فالكم يعادل الاستبداد.
لو استثمرت الأنظمة العربية المال في عقول أبنائها لكانت الفواتير أقَل بكثير
إننا قبل تعديد الجامعات وشراء التكنولوجيات، لازم علينا؛ أن نبذر في العقول أوَّلا، وأن نوفّر الأجواء المادية والظُّروف اللائقة كي تستطيع هذه العقول العربية الفائقة التَّفكير والاكتشاف، ولو فكَّرت الأنظمة في كمية المال التي تشتري بها التقنيات والوسائل، واستثمرتها في عقول أبنائها، لكانت الفواتير أقَل بكثير، فما التقنيات التي تشتريها الأنظمة من الغرب، إلا اسثمار أصحابها في العقول والمعرفة، وتوفيرٌ للسِّياقات المادية والنّفسية لعقولها؛ التي استطاع العقل بسببها أن ينطلق ويبدع. لنقل إذن، بأنّ الفرح ببداية سنة جديدة، رغم أنّه يحمل أنفاسًا رومنسية، وشُعلة من الأمل، لكنَّها تبقى منحصرة في الوعي الذّاتي، وفي الفرح النَّفسي، وممكن إلى حدِّ الثّمالة والنّشوة لدى البعض؛ هذه أشياء جميلة في عين من يقوم بها، لكنّ المطالب الحقيقة بالفرح ليست هي هذا الزمن الآلي المكرور، والخالي من الأثر، وإنّما الزَّمن الرُّوحي الذي يَشْرع في إثبات الذَّات بالفعل وبناء العقول بالعلم والقيم..
هكذا إذن، يجب أن نكتب تاريخنا العربي انطلاقًا من الخصوصية الثقافية وذخيرتها اللغوية والدينية والأخلاقية، فكتابة التاريخ الهجري في الثقافة الإسلامية، لم تكن لميلاد النَّبي، ولا لشخصية من الشَّخصيات التاريخية، بل كانت انطلاقًا من الهجرة، هجرة المكان من أجل فكرة، هجرة الأعراف الموروثة والمعطلة لإرادة الحرية والتغيير، الهجرة لأجل تجديد الطَّاقة الروحية وبث الحيوية في التاريخ، هكذا ينبغي أن نفهم سؤال الزمن في الفعل العربي المعاصر، زمن الهجرة من أجل التَّجديد والفعل والفكرة والإنسان، زمن الميلاد الجديد من أجل الأفكار ومواجهة التحديات التي تمثُل أمام الوعي.
[1] جاء في الحديث النبوي الشريف "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"
(خاص "عروبة 22")